23‏/10‏/2011

أخي بلال فضل..هكذا أنكر هارون على السامري


بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..مرة أخرى، يأمرني قلمي بمناقشة أخي الأستاذ بلال فضل، فلا أجد في نفسي إلا كل قبول، بل لأكن أكثر صراحة، أقول: قد صادف  سؤاله هوىً في نفسي، ذلك أنني على اتساع الهوة بين ما أعتقده وبين ما يطرحه أخي بلال مؤخرًا، إلا أنني أطرب وأتلذذ –صدقًا- بمناقشة المخالفين المنصفين، وإني لأعد الأستاذ بلالاً منهم.

وملخص ما حدث من قِبَل الأستاذ وفقه الله، أنه تبنَّى رأيًا في مسألة ما، ورأى خلافه باطلاً، فظل يعترض وينكر ويناقش أصحاب القول المخالف –على قطعيته- مدافعًا عما يعتقده على مدار قرابة اليومين، متمسكَا به ذابًا عنه، حتى رأى أنه قد أدى الذي عليه، فترك الساحة ساعتها، وقال: ((أُقدر زعل البعض مني جدا وأحيي غيرتهم على ما يعتقدونه لكن هذا رأيي ولا يوجد إنسان يمكن أن تتفق مع كل آرائه ادعو لي بالهداية ودع الخلق للخالق))، وأنا أثمّن والله كلامه، فهو قد أنكر واعترض على ما رآه منكرًا، ثم أقر بأن الخلاف سيظل موجودًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وفي النهاية يطالب مخالفه بأن يدعو الله له الهداية، وكاتب هذه السطور يقره على كل حرف من هذه الكلمات الرائقة، ويسأل الله له ولنفسه الهداية.

إلا أن هذا السلوك العملي، من إنكار للمنكر في نظره والدفاع عما يعتقده، ما لبث أن نقضه الأستاذ بمقاله (حتى لا تكون فتنة..أكبر!)، بتاريخ 13-10-2011 في جريدتي التحرير والدستور، الذي كان المقصد الرئيس منه هو الاعتراض على فكرة الكلام في العقائد، بيانًا للحق من الباطل حسبما يعتقده المرء، لا سيما ما فيه خلاف بين الديانات، إذ في ذلك تفريقٌ للمجتمع وشقٌ لصفه، كونه يضم أصحاب ديانتَين مختلفتين، بل تعدى ذلك إلى أن نقل كلامًا للأستاذ الكبير فهمي هويدي مقرًا له، مؤدّاه في النهاية –وإن لم يصرح أي من الأستاذين بالتزام ذلك- أنني لا ينبغي فقط أن أحجم عن الدعوة إلى ما أعتقده، ولا  أتحاشى الكلام عن بطلان ما خالف عقيدتي، بل إن أتى من ينشر عقيدة مخالفة لما يدين به مجتمعي، فإن عليّ أن أبتلع لساني وألتزم الصمت كي لا أتسبب في إثارة الفتنة! فتأمّل معي ما نقله أخونا الفاضل عن الأستاذ هويدي: ((حينما ترك موسى قومه من بنى إسرائيل، فى عهدة أخيه هارون، لبعض الوقت، بعد أن دعاهم إلى عبادة الله وحده، واستجابوا له، ولكن أحدهم اسمه السامرى زاغت عقيدته، فصنع عجلا ذهبيا للتعبد، وتبعه آخرون، وهو ما سكت عليه هارون مؤقتا، وعندما عاد النبى موسى بعد غيبته وفوجئ بما جرى، فإنه وجه لومه وتقريعه إلى أخيه هارون، كما تروى الآيات (92: 94) من سورة طه، فكان رد هارون فى النص القرآنى ﴿إني خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرائيل ولم ترقب قولي﴾، من أجل وحدة القوم وسد باب الفرقة والشقاق، سكت هارون على هذا المظهر من مظاهر الشرك بالله، وهى حجة قدرها النبى موسى وأقرها، إذ لم يشر النص القرآنى إلى أنه رد الحجة أو اعترض عليها. أى أن هارون عليه السلام عندما خير بين إحباط الدعوة إلى الشرك بالله، واحتمال تفتيت المجتمع وشق وحدته، وبين السكوت المؤقت على بادرة الشرك فى سبيل دوام الوحدة والتئام الصف، فإنه اختار الموقف الثانى، ولم يعترض عليه النبى موسى)).
 وقد سمعت أخذاً ورداً حول هذه القضية وحول نفس الاستدلال بنفس الآيات بعينها منذ ما يقارب العشر سنوات، فليس الأستاذ بأول من يثيرها، فدعنا نناقشها بشيء من التفصيل. فعلى كلام الأستاذ هويدي والذي أقره واحتفى به أخونا الأستاذ بلال، فإن هذا الفصل من قصة موسى عليه السلام قد اختُزل فيما يلي:
- أن السامري دعا إلى الشرك بعد أن ذهب موسى للقاء ربه واستخلف هارون.
- أن هارون لم ينكر على السامري ومن تبعه خشية شق الصف وتفريق المجتمع.
- أن موسى أقر هارون على هذا الفعل.

وعلى شدة السطحية في التناول والاختصار المخل لهذا الفصل من القصة والذي أنزه عنه الفاضلين هويدي وبلالاً، وأعد مسلكهما هنا من قبيل الزلل الذي لا يُعصم منه إلا الأنبياء، فإن الحقائق المذكورة نفسها لا تصح منها إلا الأولى، وهي دعوة السامري بني إسرائيل إلى الشرك، أما إحجام هارون عن إنكار منكر السامري وإقرار موسى له، فإن شيئا من ذلك لم يُخلق على ظهر الأرض، بل قصّ الله علينا خلاف ذلك بالكلية، وبيان ذلك:أن قول الله تعالى حاكيا عن موسى: ﴿يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري﴾ صريح في أن موسى ينكر على أخيه أنه لم يسرع إليه ويتبع أثره (ألا تتبعني) ليبلغه بما وقع على الفور بدلا من انتظار عودة موسى، فكان رد هارون عليه السلام: ﴿إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي﴾ أي خشيت أن أتركهم بلا راعٍ لهم ولم أراع قولك بالاستخلاف والبقاء بين ظهرانيهم حتى تعود كما أمرتني.

وهذا تفسير ابن كثير للآيات، فعن قوله تعالى: ﴿يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري﴾ يقول رحمه الله تعالى: ((وشَرَع يلوم أخاه هارون فقال ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني: أي فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع)).اهـ.
أما رد هارون عليه السلام، قول الله تعالى: ﴿إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي﴾، فهاك تفسيره عند ابن كثير أيضا ((قال إني خشيت أن أتبعك فأخبرك بهذا فتقول لي لم تركتهم وحدهم وفرّقت بينهم ولم ترقب قولي: أي وما راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم)).اهـ.
ولو لم يكن بين أيدينا إلا هذه الآيات الكريمات لما صلحت للاستدلال على ما ذهب إليه الأستاذان الكريمان كما ترى، ولكن العجيب أنهما –وفقهما الله- لم يلحظا أن الله تعالى قد ذكر قبل هذا الموضع بآيتين فقط! (طه:90) ما هو في منتهى الصراحة أن هارون قد أنكر على السامري بالفعل، وما كان له أبدًا أن يترك داعية شركٍ يبث عقيدته بين بني إسرائيل ويلتزم الصمت خشية تفريق المجتمع، وذلك قول الله تعالى: ﴿ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري﴾، فقد أنكر هارون على بني إسرائيل، وأظهر بطلان اعتقادهما بقوله: ﴿وإن ربكم الرحمن﴾، وأمرهم باتباعه وطاعة أمره، بل ونعت حالتهم ساعتها (بالفتنة)، وهنا يظهر لك أن الذي أحدث الفتنة هو السامري، وأن السكوت على دعوته ما هو إلا ترسيخ لهذه الفتنة، فلابد من التصدي وإنكار هذا المنكر (حتى لا تكون فتنة).

وجدير بالذكر أن بني إسرائيل لم يطيعوا هارون وقالوا: ﴿لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى﴾، بل  أخبرنا الله أنهم كادوا يقتلون هارون قتلاَ، في ذلك يقول ربنا حاكيًا عن هارون: ﴿إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني﴾ الأعراف:150. كل هذا لا تجد له ذكرًا في كلام الأستاذ فهمي هويدي، ولا له استدراكًا في مقال  الأستاذ بلال.والأبلغ منه هو موقف موسى عليه السلام، الذي زعم الأستاذ هويدي أنه أقر هارون، فانظر معي كيف تصرّف موسى إزاء هذه الفتنة في المجتمع:
 لقد ذهب إلى السامري ووبَّخه ثم عَمَد إلى العجل-رمز الشرك- فحرقة ونسفه في اليم نسفاً! وذلك قول الله تعالى: ﴿قال فما خطبك يا سامري.... ﴾ (طه: 95)، إلى قوله تعالى من نفس السورة: ﴿فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدًا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفًا. لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا﴾ (طه:97.) فهل بعد ذلك من إنكار؟ وأين دعوى ترك الإنكار خشية تفريق المجتمع؟! لعل الأستاذين الآن يقطعان أن ما تفضلا به لم يخطر ببال هارون ولا ورد على قلب موسى! ولكن الذي أوقع الفاضلين في هذا الخطأ في الفهم –والله أعلم-، هو ما نقع فيه كلنا أحيانًا، من خلق ثنائيات في الذهن، ثم الاستسلام لسطوتها، بحيث يكون أمام الذهن خياران لا ثالث لهما، كلاهما في غاية التطرف، بحيث لا يرى في هذه الحالة ملاذاً يفر إليه من أحد الطرفين إلا أن يستقر في الطرف الآخر، بينما يكون الحق الذي يرضي الله عز وجل وسطًا بين الطرفين.فإذا وجد بعضنا من يتطرف في ممارساته، كأن يلعن الآخر الذي يخالفه الاعتقاد ليل نهار، أو يدعو إلى طرده من البلاد أو لحمل السلاح عليه مثلا، إذا به يتخذ موقفًا لا يقل عنه تطرفًا، فيحاول أن يلغي بعض الفوارق بين أهل العقيدتين، بل يصل به الحال إلى الاستدلال بآيات تفيد في النهاية أن من جاء يدعو إلى عقيدته التي تخالفني في الدولة التي تدين بديني، فإن عليّ التزام الصمت كي لا أثير الفتن..

وكأن الخيارات المتاحة للتعامل مع هذه القضية اثنان لا ثالث لهما إما أن أتوقف حتى عن الدفاع عن عقيدتي –لا أقول الدعوة إليها-، وإما أن أُشعل أتون فتنة تهلك الأخضر واليابس!والموقف الصحيح في هذه القضية وغيرها، هو أن ندخل في السلم كافة، وأن نؤمن بالكتاب كله، فلا ننتقي منه ما يناسب أهواء الناس، ولا نبني رأيًا كردة فعل لممارسات طائفة ما، ثم نهرع إلى القرآن لننتقي ما يوافق ما اعتقدناه سلفًا.
فالذي أخبرني أنه ﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم﴾ (المائدة : 17)، والذي أخبرني أنه ﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ (آل عمران: 85)، هو الله عز وجل الذي أنزل إلينا الكتاب مفصلا.

ولا يصح الاعتراض عليّ هنا بقول القائل: (إن دخول الجنة أمر بيد الله تعالى لا نملكه نحن البشر)، فهذا محض حق لا مراء فيه، ولم أدع أن بيدي كشفًا بأسماء أهل الجنة وأسماء أهل النار! ولكن هذا ينطبق على الأفراد، لا على النوع.أعني: أنني لا أستطيع أن أقطع أن أشد خلق الله إظهارًا للكفر يعذّب الآن في قبره، يعرض على النار غدوًا وعشيًا، ما لم يرد في ذلك نصٌ يخصه بعينه في الكتاب أو السنة (كفرعون وأبي لهب مثلا)، لكن الذي أقطع به هو ما أخبرني به ربي، فهو الذي قدّر ونصب الميزان العدل، وهو الذي أخبرني بأن من مات على غير التوحيد فهو في النار خالدًا مخلدًا فيها، ولا سبيل لرد هذه الحقيقة ما دمت مؤمنا بالكتاب كله.

ولتقريب الصورة، فلنضرب المثل بطلاب يخوضون اختبارًا، فنحن لا نعلم قبل الاختبار بل قبل أن تُصحح الأوراق: من سينجح ومن سيرسب، ولا نملك أي سلطان على أحد من الطلبة، من شاء ذاكر واجتهد ومن شاء غير ذلك فهذا شأنه، فإذا سألني أحد: من سينتقل إلى السنة الدراسية التالية من هؤلاء الطلبة، قلت: الله وحده أعلم، لكن الذي لا أشك فيه ولا تشك أنت فيه، أن من رسب في الاختبار فلن ينتقل إلى السنة التالية، ومن نجح فسوف ينتقل.

ولله تعالى المثل الأعلى في السماوات والأرض.

وكما أنني أعتقد ذلك ولا أقبل به أي مساس، فغيري أيضا لا يصح إيمانه بدينه إلا أن يؤمن بهذه النصوص: ((الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياةُ بل يمكث عليه غضب الله)) (يوحنا 36:3)، وهذا: ((في لهيب نار، لينتقم من الذين لا يعرفون الله والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع. فأولئك سيعاقبون بالهلاك الأبدي، بعيدًا من وجه الرب، ومن مجد قدرته)) (رسالة بولس إلى أهل تسالونيكي 8:1، 9:1).

فماذا يكون حكمي –وأنا لا أؤمن بأن لله ابنًا –تعالى الله- ولا أؤمن بأصول عقائدهم في إنجيل يسوع؟

بل لو آمن إنسان بهذا كله ولم يتم "تعميده": فليس بناجٍ ولا يدخل الملكوت! يقول البابا شنودة الثالث في كتابه (بدعة الخلاص في لحظة القداسة): ((إن الذي لا يعتمد لا يدخل الملكوت))، ثم يستدل على ذلك بما ورد في إنجيل يوحنا: ((الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من الماء والروح، لا يقدر أن يدخل ملكوت الله)) (يوحنا 5:3)، وأصرح من ذلك استدلاله في نفس الكتاب على ذات القضية بما ورد في إنجيل مرقص: ((من آمن واعتمد خلص)) (مرقص 16:16)، يعلق البابا شنودة قائلا: ((ولم يقل من آمن فقط، وإنما جعل المعمودية من شروط الخلاص))..

فهذه عقيدته ليس له أن يجبرني على التزامها، وتلك عقيدتي، لم ولن أجبره على الإذعان لها، والله يفصل بيننا يوم القيامة.

وليسمح لي أخي الأستاذ، فإنني أجد نفسي مضطرا للتعليق -على عجالة- على تلك القضية الأجنبية بالكلية عن محل بحثنا التي أقحمها أخونا في النقاش قسرًا، أعني قوله: ((يجلس المتعصب على شاشة كمبيوتر اخترعه مسيحي وجمعه بوذي وصمم برامجه يهودي ونفذها هندوسي ليكتب أنه وحده سيدخل الجنة والباقون في النار))، فكما أنني لا أغمطهم حقهم ولا أدعي تفوقنا في الدنيا عليهم في هذا العصر، ومع إقراري على وجوب شكرهم على ما  بذلوا من جهود خدموا به البشرية، إلا أن مفتاح الجنة ليس بيدي كي أكافئه وأحجز له مقعدًا فيها جزاء اختراعه للكمبيوتر الذي أنتفع به! ولكن الله قد يكافئه على ذلك في الدنيا كما في الحديث، أما في الآخرة، فإن الله قد أخبرنا أنه يغفر كل ذنب إلا الشرك، ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ (النساء: 48)، فإن بلغته الحجة ثم  اختار أن يعبد صنما أو يسجد لبقرة! أفينفعه يوم يُنفخ في الصور وتتطاير الصحف ويُنصب الميزان أن يحتج على ربه بقوله: (قد ساهمت في تطوير معالج الكمبيوتر)؟!

وهل يصح أن أُعيَّر أنا بانتفاعي بما أنتجه غير المسلمين؟ مع أن التقدم العلمي –كما لا يخفى على الأستاذ الكريم- يخضع لقانون التراكم المعرفي؟ أفلا أستطيع أن أدعي أنه لولا إنجازات المسلمين كابن الهيثم والخوارزمي والبيروني لما عرف الغرب طريقًا إلى هذه المخترعات التي ننتفع بها وينتفع هو بها؟ وهل في شرع الله ما يمنعني من الاستفادة بما أنتجه غيري أو يمنعني من أن أنفع غيري بما أنتجه أنا؟ على كلٍ، عسى الله أن يستخدمنا لاستعادة مجدنا، وساعتها لن نعيّر أحدًا ولن نُتبع عطاءنا بالمن والأذى، بل ليس ثمة إلا الأحسان إلى خلق الله أجمعين، كما فعلنا من قبل وشهد به الأعداء.

ومع ذلك، فالذي أخبرني بهذه الحقائق –أعني كفر من لم يدن بالإسلام وحرمانه من الجنة-، هو عز وجل الذي أمرني بالبر والإقساط إليهم مالم يحاربوني أو يظاهروا على إخراجي من بلادي: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين﴾ (الممتحنة: 8)، فلماذا لا يعتقد كلٌ منا أنه على الحق –ولولا ذلك لما كان هناك طائفتان أصلا!- ونحن مع ذلك نضرب أروع أمثلة التعايش السلمي؟

إنني على تمام اليقين، أننا كلما ازددنا فقهًا لشرع الله وعلمًا بسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، كلما سهل علينا تصور هذه المعادلة: المفاصلة التامة في الاعتقاد، مع التعايش السلمي في أرقى صوره، وتاريخنا ولله الحمد بين أيدينا، شاهد عيان على صدق دعوانا.

وما كان الله تعالى –بحكمته ورحمته- ليضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما السكوت والرضا بمحو الحدود وإزالة الفوارق العقدية، وإما المصادمة والقتال، إذًا لجثونا على الركب! فهذا لا نطيقه ولا يطيقه من عاش بيننا في بلادنا، فكما أنني لا أطيق أن أتقاتل وجاري ليل نهار لخلافي معه في الاعتقاد، فإنني كذلك لا أطيق أن أرى عقيدتي يُسلب شيءٌ منها ويتم العمل على تمييعها حتى تختلط بغيرها ولا أحرك ساكنا.

وإن كنا نقبل أن نختلف على برامج حزبية، وسأدبج أنا والأستاذ بلال المقالات تلو المقالات انتصارًا لطرح حزبي معين أو دفاعًا عن مرشح رئاسي بعينه، مع أن الخلاف حول الأشخاص مظنة التعصب المؤدي إلى الخلاف والشقاق، أفلا يحق لنا أن ندافع عن ديننا ونظهر الحق الذي ندين الله به كي لا نفرق المجتمع؟
فلنرتق بمستوى طرحنا ولنغص قليلا إلى عمق المشكلة ولنطرح السطحية من جانب ولا ندس رؤوسنا في الرمال، فإن الفتن لا تؤجَّج –ولم تؤجج يوما- لمجرد اختلاف العقائد، وإنما تشتعل ويعجز المخلصون عن إطفائها إذا ما توالت الممارسات الطائفية المعلومة لدى الجميع، فلنسلّط الضوء عليها ولنحتسب أجر اجتثاث جذور الاضطرابات على الفور، فهكذا تكون الإيجابية وهكذا تكون أفعال الرجال.

الحكمة لا تعني السكوت والإقرار على طول الخط، بل هي وضع الشيء في موضعه، نتكلم حيث اقتضى المقام الكلام ونسكت حيث اقتضى المقام السكوت، فإن اقتضت الظروف ألا أجهر بشيء من عقيدتي لمصلحة ما، أو أن أسكت على باطل وأنكره بقلبي فقط، فإن هذا يظل استثناءً، وتظل هذه الحالات في غاية الندرة، ولا يمكن بحال أن نعممها ونجعلها بمثابة القاعدة التي يلزمنا السير وفقها طالما وُجد بيننا في الوطن من لا يدين بديننا.

شرع الله وسط بين الإفراط والتفريط، ما علينا إلا أن نتعلم ونجتهد في تدبر نصوصه، نرجع إلى التفاسير الموثوقة ونسترشد بكلام أئمة العلم، ندرك ساعتها -إدراك من عاين لا من أُخبر- أننا لو اجتمعنا واستعنا بالثقلين  لما أتينا بمثل شرع الله حكمةً ومناسبةً لواقعنا وواقع غيرنا ممن يعيشون بين ظهرانينا، ولكننا –وأنا أول هؤلاء- جد مقصرون، فأسأل الله لي ولأخي بلال حسن الفهم لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأسأله وحده لي وله التوفيق كله والسداد والرشاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

والحمد لله رب العالمين.

الكاتب: خالد خطاب
الأحد 18 ذو القعدة 1432 هـ - 16 أكتوبر 2011 م


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق