29‏/03‏/2010

نظرة في تاريخ العقيدة

·      هل تطورت العقيدة عبر الزمان؟
يرى كثيرٌ من الباحثين الغربيين أن الإنسان لم يعرف العقيدة على ما يعرفها عليه اليوم مرة واحدة، ولكنها ترقَّت وتطورت في فترات وقرون متعاقبة.
ولا عجب أن يقول مثل هذا القول الباطل قومٌ لم يمنحهم الله كتابه الذي يحكي تاريخ العقيدة بوضوحٍ لا لبس فيه، إلا أن العجيب أن يذهب هذا المذهب رجال يعُدُّون أنفسهم باحثين مُسلِمين.
فهذا عباس محمود العقاد يرى في كتابه "الله" (نشرته دار الهلال بالقاهرة، انظر ص10 وما بعدها) – وهو كتاب يبحث في نشأة العقيدة الإلهية – أن الإنسان ترقى في العقائد، ويرى أن ترقي الإنسان في العقائد موافِقٌ تماماً لترقيه في العُلوم.
ويقول: "كانت عقائد الإنسان الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته، فليس أوائل العِلم والصناعة بأرقى من أوائل الأديان والعِبادات، وليس عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى".
ثم أخذ يستعرض آراء الباحثين في تاريخ العقيدة، فمنهم من يرى أن السبب في نشأة العقيدة هو ضعف الإنسان بين مظاهر الكون وأعدائه من قوى الطبيعة والأحياء، ... وبعضهم يرى أن العقيدة الدينية حالة مَرَضِيَّة في الآحاد والجماعات، ويرى بعضهم أن أصل العقيدة الدينية عبادة "الطوطم"، كأن تتخذ بعض القبائل حيواناً (طوطمياً) تزعمه أباً لها، وقد يكون شجراً أو حجراً يقدسونه، إلى آخر تلك الفروض التي قامت في أذهان الباحثين الغربيين.
ومع الأسف فقد سَرَت هذه النظرية إلى كثير من الكُتَّاب (ممن جنح إلى القول بهذه النظرية مصطفى محمود في كتابه "الله")، واعتنقها جملة من الدارسين (لست أدري أي عقيدة هذه التي تطورت؟ أهي العقيدة اليهودية المُحَرَّفة أم النصرانية المُبَدَّلة أم عقيدة الفلاسفة... إن هذه العقائد لا تُمثل إلا انحرافات عقائدية ولا تُمثل العقيدة السليمة)، والذي أوقع هؤلاء في هذا الخطأ أمور:
الأول: أنهم قدَّروا أن الإنسان الأول خُلِق خَلقاً ناقصاً، غير مؤهل لأن يتلقى الحقائق العُظمى كاملة، بل إن تصوراتهم عن الإنسان الأول تجعله أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان.
الثاني: أنهم ظنوا أن الإنسان اهتدى إلى العقيدة بنفسه بدون مُعَلِّم يُعَلِّمه، ومُرشِد يُوَضِّح له. فما دام الأمر كذلك فلابد أن يترقى في معرفته بالله كما ترقى في العلوم والصناعات.
الثالث: أنهم عندما بحثوا في الأديان ليتبينوا تاريخها لم يجدوا أمامهم إلا تلك الأديان المُحرفة أو الضالة، فجعلوها ميدان بحثهم، فأخضعوها للدراسة والتمحيص، وأنى لهم أن يعرفوا الحقيقة من تلك الأديان التي تُمثل انحراف الإنسان في فهم العقيدة.

القرآن وحده يُوضح تاريخ العقيدة
ليس هناك كتاب في الأرض يوضح تاريخ العقيدة بصدق إلا كتاب الله سبحانه وتعالى، ففيه علم غزير في هذا الموضوع، وعلم البشر لا يُمكن أن يُدرك هذا الجانب إدراكاً وافياً.
لذا فإن الذي يستطيع أن يمدنا بتاريخ حقيقي لا لبس فيه هو الله سبحانه وتعالى، {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى  عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [سورة آل عِمران – الآية 5].

·      تاريخ العقيدة كما يرويه القرآن الكريم
أعلمنا الله سبحانه أنه خَلَقَ آدم خَلْقاً مُستقِلاً سوياً مُتكاملاً، ثم نفخ فيه من روحه وأسكنه جنته، وأباح له أن يأكل وزوجته منها كيف شاءا إلا شجرة واحدة، فأغراه عدوه إبليس بالأكل من الشجرة فأطاع عدوه وعصى ربه، فأهبطه الله من الجنة إلى الأرض، وقبل الهبوط وعده الله سبحانه بأن يُنزل عليه وعلى ذريته هداه كي يُعَرِّف الإنسان بربه ومنهجه وتشريعه، ووَعَدَ المُستجيبين بالهداية في الدنيا والسعادة في الأخرى، وتوعد المُستكبرين بالمعيشة الضنكة في الدنيا وبالشقاء في الآخرة: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا  بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة – الآيات 38 و39].

الجيل الأول من البشرية كان على التوحيد
هبط آدم إلى الأرض، وأنشأ الله مِن ذريته أمة كانت على التوحيد الخالص كما قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سورة البقرة – الآية 213]، أي على التوحيد والدين الحق فاختلفوا {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْـزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [سورة البقرة – الآية 213].

أول انحراف عن العقيدة وأول رسول
وبعد أن كان الناس أمة واحدة على التوحيد، حصل الزيغ والانحراف. وكان أول انحراف حدث هو الغلو في تعظيم الصالحين، ورفعهم إلى مرتبة الآلهة المعبودة.
ففي صحيح البخاري مِن حديث ابن جُرَيْج عن عطاء عن ابن عباس عند تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [سورة نوح – الآية 23]. قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبَد. حتى إذا هلك أولئك وانتسخ العِلم (نُسِيَ ودَرَسَ) عُبِدَت". (صحيح البُخاري: 4920).
فهذا أول انحراف وُجِدَ في تاريخ البشرية عن التوحيد، فأرسل الله إليهم أول رُسله نوحاً عليه السلام مِصداقاً لوعده الذي أعطاه لأبي البشر آدم بإرسال الرُسُل وإنزال الكُتُب هدايةً للبشر.
وهكذا استمرت رحمة الله وعنايته ببني آدم كلما ضلوا وزاغوا أنزل إليهم هُداه يُضيء لهم الظلمات: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة المؤمنون – الآية 44].

منقول باختصار
مِن كِتاب: العقيدة في الله – من سلسلة: العقيدة في ضوء الكِتاب والسُنَّة
كتبه: فضيلة الشيخ أ.د. عمر سليمان الأشقر، كلية الشريعة – الجامعة الأردنية

20‏/03‏/2010

فتوى ببدعية عيد الأم والبديل الشرعي

بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
أعيادُنا توقيفية تُؤخَذ دون زيادةٍ ودون نقصان، وهي من أعظم شعائر الدين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا أهل الإسلام» صححه الألباني في "صحيح الجامع" مِن حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. ولما قَدِم المدينة ورأى أهلها يلعبون في يومين وسأل عن هذين اليومين، فقالوا: يومان كنا نلعب فيها في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر» صححه الألباني في "صحيح أبي داود" مِن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
ولذلك فاستحداث عيد الأم وعيد الطفل وعيد الربيع وعيد العامل والمعلم ... كلها من جملة الأعياد البدعية، وينبغي إمرار هذه الأيام دون استحداث لشيءٍ زائد فيها، أي يكون شأنها كشأن سائر الأيام فمن كانت عادته أكل اللحم والحلوى في غير ذلك من الأيام فليأكلها في هذا اليوم بلا حرج. بل إضفاء شيء زائد على المولد النبوي ورأس السنة الهجرية وذكرى الإسراء والمعراج يُعتبر من البدع المحدثة، إذ انقضت خير القرون دون احتفال على النحو المريب الذي نصنعه اليوم - وهم عن عِلم وقفوا وببصرٍ نافذ كفوا، والشرع قد اكتمل، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية وصاحبها ممن زُينَ له سوء عمله فرآه حسناً { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [سورة مريم – الآية 64].
وبالنسبة لعيد الأم، فقد اخترعوه في فرنسا، ونقله الصحفي مصطفى أمين وكان متخصصاً في التكريس لهذه الأعياد المُخترعة. وعيد الأم ليس من العادات الحسنة بل هو من البدع القبيحة، ومن أراد تكريم الأمهات فعليه بالرجوع للكتاب والسنة لتكون كل لحظة أشبه بالعيد بالنسبة لها، فلا يُقتصر الأمر على هدية تقدم في يوم 21 مارس، ويتم التفاضل بين الأبناء على أساسها، وقد يعود البعض سيرته الأولى في عقوق الأمهات فهل يكون قد برأ ساحته عندما قدم الهدية في هذا اليوم؟ وماذا يصنع من ماتت أمه؟!!
لقد دعاهم الحرج إلى القول بِعِيد الأسرة حيناً وعيد الأب حيناً آخر، ولو تفقه الإنسان في دينه لَعَلِم كيف يكون البر الحقيقي، ولا يجوز الاستناد لنصوص الشريعة لتبريره كما يفعل بعض المنسوبين للعلم، فهذا من جملة الحق الذي يُراد به الباطل.
حُكي أن ابن سيرين كان إذا وقف مع أمه فكأنما أسير بين يدي أمير يريد أن يقتص منه، فلما سُئِلَت أخته عن سبب ذلك وهل به علة، فقالت: هكذا يكون مع أمه. وكان زين العابدين لا يأكل مع أمه وكان باراً بها فلما سُئِل قال: أخاف أن تَسْبِق يدي يدها إلى ما تَسْبِق إليه عيناها فأكون قد عققتها. ولما غلا ثمن النخل اشترى أسامة بن زيد رضي الله عنه نخلة بألف درهم وقطع جمارها وأطعمه لأمه فلما روجع قال: سَأَلَتْنِيه ولا تسألني شيئاً أقدر عليه إلا وأطعمتها إياه.
والحكايات في البِر كثيرة وما بعد البِر إلا العقوق قال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [سورة الإسراء – الآية 23]، وقال: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [سورة النساء – الآية 36]، وقال: { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [سورة لُقمان – الآية 15].
والأم لها ثلاثة أرباع ما للأب من البر. فاحرص على بر الوالدين وطاعتهما في غير معصية الله تعالى، ولا تُقَصِّر في حقهما حتى وإن ظلماك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فمَن أصبح وله والدان أصبح وله بابان مفتوحان إلى الجنة، إن كانا واحداً فواحد. قيل: وإن ظلماه، قال: «وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه» أورده الألباني في "السلسلة الضعيفة" من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « الرحم معلقة بالعرش وليس الواصل بالمكافيء» رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وصححه أحمد شاكر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» رواه مسلم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
والبر لا ينقطع بموت الوالدين فالدعاء يصل للميت باتفاق العلماء وكذلك الصدقة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حج عن أبيك واعتمر» رواه الترمذي في السُنن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن مات وعليه صيام صام عنه وليه» رواه البخاري ومسلم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وكذلك الترحم عليهما والاستغفار لهما، وصلة صديقهما والرحم التي لا توصل إليهما، وانفاذ وصيتهما ما لم تشتمل على معصية وسداد ديونهما، كل ذلك من صور برهما.

كتبه: الشيخ سعيد عبدالعظيم

12‏/03‏/2010

الصراع بين الكنيسة والعِلم

الصراع بين الدين والعلم مشكلة من أعمق وأعقد المشكلات في التاريخ الفكري الأوروبي إن لم تكن أعمقها قاطبة، فمنذ عصر النهضة إلى عصرنا الحاضر والصراع على أشده بين مؤيدي العلم وأنصار الدين، ورغم كل الظواهر البارزة في الحياة الغربية التي تؤكد أن المعركة قد انتهت وأن العلم انتصر بصفة نهائية على خصمه اللدود، فإن هناك ما يدل دلالة قوية على أن الدين، أو على الأصح بعض قضاياه الاعتقادية والسلوكية، لم تكن في عصر من العصور أقوى حجة منها في هذا العصر، لا سيما بعد أن تنكرت الثقافة الغربية لأفكار القرن التاسع عشر التي تتسم بخاصيتي "الإطلاق والعقلانية" واعتنقت نظريات القرن العشرين التي تتميز بالنسبية واللامعقول.
ولذلك فقد خُيِّل للكثيرين أن المعركة لم ولن تنتهي وأنها باقية ما بقيت المعرفة الإنسانية، وساعد على ترسيخ هذه الفكرة تقبل النفسية الأوروبية للازدواجية في كل شيء وهو التقبل الذي تولد من خضوعها المستمر لسلطتين متباينتين وإيمانها الطويل بفكرتين متناقضتين.
وقليلٌ منهم من فطن إلى السِّر الكامن وراء استمرارية المعركة دون نتيجة نهائية حاسمة. والواقع أن السبب الحقيقي في ذلك يمكن إدراكه بسهولة لو أن الإنسان الغربي – من أي الفريقين – تخلى عن غروره وتبجحه ونَظَر إلى المشكلة نظرة تقييمية مجردة، وذلك أن أي خصمين يملك كل منهما نصف الحقيقة لا يمكن أن ينتصر أحدهما على الآخر انتصاراً نهائياً.
وبتطبيق هذه البديهية على الصراع بين العلم والدين الأوروبيين نجد أن المواقع التي احتلها العلم من مناطق نفوذ الدين هي في الحقيقة المواقع التي انتصر فيها العقل واليقين على الخرافة والوهم، كما أن المواقع التي صمد فيها الدين أمام الهجوم العلمي الكاسح هي المواقع التي انتصرت فيها الحقيقة الموحاة على التخرصات والأهواء.
وحينئذ نستطيع أن نقول مطمئنين: إن الحق في كل من الطرفين هو الذي انتصر، أو سينتصر، على الباطل في كليهما، وأنه لو كان الدين الأوروبي حقاً خالصاً والعِلم الأوروبي يقيناً مجرداً لما حدثت معركة على الإطلاق.
وبما أن الدين بصبغته الإلهية النقية لم يدخل المعركة، فإن الأوفق أن نُسمي ما حدث في الغرب صراعاً بين الكنيسة والعلم، وليس بين الدين والعلم.

ومن المؤسف حقاً أن جناية رجال الدين الأوربيين على الحقيقة كانت أشنع وأنكى من جناية أنصار العِلم عليها، وإن كان كل منهما مسؤولاً عن النتائج المؤسفة لذلك الصراع، ذلك أن الكنسية ارتكبت خطأين فادحين في آن واحد:
أحدهما: تحريف حقائق الوحي الإلهي وخلطها بكلام البشر.
والآخر: فرض الوصاية الطاغية على ما ليس داخلاً في دائرة اختصاصها.
والخطأ الأول مسؤول عن تسرب الخرافات الوثنية والمعلومات البشرية إلى كثير من تعاليم المسيحية، إذ جعلتها الكنيسة عقائد إلهية تدخل في صلب الدين وصميمه، وعدت الكفر بها كفراً بالوحي والدين.
والخطأ الثاني نشأ عن ضيق صدر الكنيسة بما يخالف تعاليمها الممزوجة وإصرارها الأعمى على التشبث بها، فكان الامتداد الطبيعي للطغيان الديني طغياناً فكرياً عاماً، وحاسبت الناس، لا على معتقدات قلوبهم فحسب، بل على نتائج قرائحهم وبنات أفكارهم، وتوهمت أن في قدرتها أن تملك ما لا تستطيع أية قوة طاغية أن تحتكره، وهو الحقيقة العلمية فيما يتعلق بالتجربة المحسوسة أو النظر العقلي السليم. وبذلك أقحمت نفسها في متاهات كانت غنية كل الغنى عن عبورها وأثارت على نفسها حربا ضروساً لا هوادة فيها ولا تمييز.
وأول عمل مارسته الكنيسة في هذا المجال هو احتكارها للعلم وهيمنتها على الفكر البشري بأجمعه.

كتبه: د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
مِن كتاب "العلمانية: نشأتها وتطورها وأثرها على الحياة الإسلامية المعاصرة" - رسالة ماجيستير

07‏/03‏/2010

كيف تتحقق المُتابعة في العمل؟

ليُعلم أيها الإخوة أن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقاً للشريعة في أمورٍ ستة:
الأول: السبب. فإذا تعبد الإنسان لله عبادةً مقرونةً بسبب ليس شرعياً فهي بدعة مردودة على صاحبها. مثال ذلك أن بعض الناس يُحيي ليلة السابع والعشرين من رجب بحِجة أنها الليلة التي عُرِج فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتهجد عبادة ولكن لما قُرِن بهذا السبب كان بدعة لأنه بَنَى هذه العبادة على سبب لم يَثْبُت شرعاً. وهذا الوصف (موافقة العبادة للشريعة في السبب) أمر مهم يتبين به ابتداع كثير مما يُظَن أنه مِن السُنَّة وليس من السُنَّة.
الثاني: الجِنس. فلابد أن تكون العِبادة موافِقة للشرع في جنسها، فلو تعبد إنسان لله بعبادة لم يُشرَع جِنسها فهي غير مقبولة. مثال ذلك أن يُضحي رجل بفَرَس، فلا يصح أُضحيةًَ لأنه خالف الشريعة في الجنس فالأضاحي لا تكون إلا بهيمة الأنعام؛ الإبل، البقر، الغنم.
الثالث: القَدْر. فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة فنقول: هذه بدعة غير مقبولة لأنها مخالِفة للشرع في القَدْر، ومن باب أولى لو أن الإنسان صلى الظهر مثلاً خمساً، فإن صلاته لا تصح بالاتفاق.
الرابع: الكيفية. فلو أن رجلاً توضأ فبدأ بغَسْل رِجليه ثم مَسَح رأسَه ثم غَسَل يديه ثم وجهَه فنقول: وضوءُه باطل لأنه مُخالِف للشرع في الكيفية.
الخامس: الزمان. فلو أن رجلاً ضحى في أول أيام ذي الحجة فلا تُقبل الأضحية لمخالفة الشرع في الزمان. وسمعت أن بعض الناس في شهر رمضان يذبحون الغنم تقرُّباً لله تعالى بالذبح، وهذا العمل بِدعة على هذا الوجه لأنه ليس هناك شيء يُتقرب به إلى الله بالذبح إلا الأُضحية والهدي والعقيقة، أما الذبح في رمضان مع اعتقاد الأجر على الذبح كالذبح في عيد الأضحى فبدعة. وأما الذبح لأجل اللحم فهذا جائز.
السادس: المكان. فلو أن رجلاً اعتكف في غير مسجد فإن اعتكافه لا يصح، وذلك لأن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد ولو قالت امرأة أريد أن أعتكف في مُصلى البيت، فلا يصح اعتكافها لمخالفة الشرع في المكان. ومن الأمثلة لو أن رجلاً أراد أن يطوف فوجد المطاف قد ضاق ووجد ما حوله قد ضاق فصار يطوف من وراء المسجد فلا يصح طوافه لأن مكان الطواف البيت قال الله تعالى لإبراهيم الخليل: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ}(سورة الحج - الآية 26).

فالعبادة لا تكون عملاً صالحاً إلا إذا تحقق فيها شرطان:
الأول: الإخلاص ـ الثاني: المتابعة، والمتابعة لا تتحقق إلا بالأمور الستة الآنفة الذِكر.

كتبه: فضيلة الشيخ محمد بن صالح العُثَيمين، رحمه الله
مِن كتاب: الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع