يكتنف هذه العقيدة كثير من الغموض الذي يصعب إزالته حتى باستخدام الأحكام العقلية المُجردة؛ ويقولون: إن الله واحد في ثلاثة أقانيم؛ هم الآب "الله" والابن "الله" والروح القُدُس "الله" وهؤلاء الثلاثة هم الله. كيف؟ هذا هو سر الثالوث الأقدس الذي لا يستوعبه عقل بشري؛ لأنه فوق مستوى إدراكه. من كتاب "كُنتُ نصرانياً" لواصف الراعي، ص110.
ومع هذا فإننا سنعرض لبعض الشروح التي دارت حولها بحيدة تامة، محاولين تقريب العقيدة إلى الأفهام ما أمكن:
1. يستمد هذا الشرح من التأمل في التركيب الجسماني للإنسان، إذ أن كيانه يتألف من الأجزاء المادية المتجانسة، التي تستطيع الأنظار المادية أن ترى هيأتها الاتحادية، فمثلاً العظم واللحم والدم، من اتحاد هذه الأشياء الثلاثة يقوم الجسم الإنساني في الوجود، ولو فقد واحداً منها لما تم الوجود الإنساني. من كتاب "ما هي النصرانية" لمحمد تقي العثماني، ص47/48.
ولكن إذا تأملنا هذا المثال نجده لا يتفق مع العقيدة المسيحية في التثليث، علي حين أن المسيحية لا تؤمن بثلاثة أقانيم كثلاثة أجزاء، وإنما تؤمن بها كثلاثة أشخاص مستقلين، ومن هنا فإنها لم تستخدم للأب والابن وروح القدس كلمة "الأجزاء" وإنما استعملت كلمة "الأقانيم Persons" أو الأشخاص، ولا شك أن أحداًَ لا يقول بأن اللحم وحده، أو العظم وحده، أو الدم وحده "إنسان"، وإنما يقول إنه جزء من الإنسان، وعلى العكس من ذلك فإن المسيحية تَعُد من الأب والابن والروح القددس إلهاً، ولا تَعُده جزءاً من الله. من كتاب "ما هي النصرانية" لمحمد تقي العثماني، ص49.
2. التجلي والحُلول:
عبَّر الأب سوجارت على ذلك بقوله: إن الرب يُعْلمنا بوجود إله واحد وليس إثنين أو خمسة... وإنه تجلى في ثلاثة أشخاص، ثلاث شخصيات مختلفة؛ نحن نؤمن بوجود الأب السماوي، والإله الابن، ونؤمن بالروح القدس الذي غشي مريم؛ إنه أيضاً وهُم كلٌ لا يتجزأ بمعنى أنهم متفقون تماماً، وفي توحد وانسجام لا يختلفون أبداًُ ولن يختلفوا أبداً. من كتاب "المناظرة الحديثة بين الشيخ ديدات والقس سوجارت" جمع وترتيب د. أحمد حجازي السقا وتقديم الشيخ الغزالي، ص199.
وعندما أُعطيت الكلمة للأستاذ أحمد ديدات، قام فأفصح عن تعجبه الشديد من قيام الأب سوجارت بتغيير الكلمة المُعبرة عن الرب، حيث كان في صباح يوم المناظرة نفسه يستخدم في خطابه لمجموعة من كنيسته كلمة "المولود لله"، وهي مستخدمة أيضاً في إنجيل الملك جيمس المُعتَمَدة بالنَص لأنه هكذا أحب العالم حتى إنه أعطى ابنه الوحيد، والتعبير الإنجليزي الوارد بالنَص يستخدم كلمة "بجتن" أي المولود لله؛ ولكن بعد ثماني ساعات فقط، وأثناء المُناظرة غَيَّر الأب سوجارت كلمة "بجتن" إلى كلمة "المتفرد". من كتاب "المناظرة الحديثة بين الشيخ ديدات والقس سوجارت" جمع وترتيب د. أحمد حجازي السقا وتقديم الشيخ الغزالي، ص135.
ويقول الأستاذ ديدات: وبالمناسبة فإن كلمة "بجتن" تعني أيضاً الإنتاج يا سيدي، فالله أنتج ولده. من كتاب "المناظرة الحديثة بين الشيخ ديدات والقس سوجارت" جمع وترتيب د. أحمد حجازي السقا وتقديم الشيخ الغزالي، ص180.
وعندما سُئِل الأب سوجارت عما يعنيه بكلمة "مُتَفَرِّد" أجاب بأنها في الأصل اليوناني تعني ببساطة لم يكن مثله أحد من قبل، وما كان أحد أبداً مثل ابن الله، فهو متفرد، لم يكن أحد من قبل مثل مريم التي أنجبت ابن الله، إنها تعني ببساطة أن أحداً لم يكن أبداً مثله من قبل، ولن يكون أحداً مثله من بعد، يكون متفرداً كابن الله، متجسداً في هيئة بشرية. من كتاب "المناظرة الحديثة بين الشيخ ديدات والقس سوجارت" جمع وترتيب د. أحمد حجازي السقا وتقديم الشيخ الغزالي، ص195.
ثم أوضح أن المسيحيين لا يعتقدون بوجود ثلاثة آلهة، وسَخِر من الذين يظنون أنهم يعتقدون أن الله متزوج ويسكن في شقة في السماوات، وأنه أنجب أطفالاً، ووصف ذلك بأنه سخافات؛ ثم عَبَّر عن الإيمان الصحيح عندهم حيث يؤمنون بأن الله بسبب حبه للناس تعطف ونزل على هذا الكوكب، وعاش بين الناس ومشى بينهم وتحدث إليهم، وفي هيئة بشر تجسد ليموت على الصليب كالفادي تكفيراً عن خطايا البشرية فالإنسان عاجز عن إنقاذ نفسه، ولقد فعل ذلك وقال للناس: إنكم ستقتلون هذا الجسد وفي خلال أيام ثلاثة سأرفعه إلَيَّ مرة أخرى؛ وهكذا فهو متفرد في ذلك. كذلك كان متفرداً في معجزاته، متفرداً في نبوءته، متفرداً في ميلاده، متفرداً في حياته، متفرداً في رسالته، متفرداً في موته، متفرداً في قيامته، متفرداً في صعوده، وعندما يعود فسوف يكون متفرداً في عودته. من كتاب "المناظرة الحديثة بين الشيخ ديدات والقس سوجارت" جمع وترتيب د. أحمد حجازي السقا وتقديم الشيخ الغزالي، ص196.
ولكن هذا الأسلوب الإنشائي الخطابي لا يحل مشكلة الغموض، وربما كان فراراً من المواجهة التي لابد منها؛ إنه يقول - أثناء حديثه أيضاً – شخص وشخص وشخص، إلا أنهم ليسوا ثلاثة أشخاص بل شخص واحد.
وعندئذٍ وَجَّه الأستاذ ديدات الخطاب إلى الأب سوجارت وضرب له المثل الآتي: أنت وأخواك لنفترض أنكم ثلاثة توائم متشابهة، وأننا لا نستطيع التمييز بينكم أنتم الثلاثة لأنكم متطابقون تماماً، فإذا اقترف أحدكم جريمة قتل هل يمكن أن نشنق الآخر؟ جوابك كلا. وأسألك: لماذا لا يُشنق؟ فتقول لي: إنه شخصٌ آخر، وأوافقك على هذا. من كتاب "المناظرة الحديثة بين الشيخ ديدات والقس سوجارت" جمع وترتيب د. أحمد حجازي السقا وتقديم الشيخ الغزالي، ص204.
ثم أوضح أن استخدام الكلمات يستدعي صُوَراً ذهنية حول "الأب السماوي المُحِب" و"الإله الابن" و"الروح القدس". إذن هناك ثلاث صور ذهنية مختلفة، ومهما حاولتم فلن تتطابق هذه الصور الثلاثة في صورة واحدة؛ سيكون في ذهنكم دائماً ثلاث صور، ولكن حين أسألكم: كم صورة ترون؟ تقولون: واحد، من كتاب "المناظرة الحديثة بين الشيخ ديدات والقس سوجارت" جمع وترتيب د. أحمد حجازي السقا وتقديم الشيخ الغزالي، ص205. وهذا لا يُطابق الواقع.
3. مِثال الشمعة
وهذا المثال مشهور ومتداول، فالله عندهم – تعالى عُلُواً كبيراً – كالشمعة، فالشمعة واحدة ولكن لها مادة ونور وحرارة؛ فهي ثلاثة في واحد. من كتاب "كُنتُ نصرانياً" لواصف الراعي، ص25.
وهذا المثال متهافت أيضاً لا يُعَبِّر عن العقيدة النصرانية؛ لأن الأقانيم عندهم ثلاثة أصول، والشمعة أصل واحد، أما الضوء والحرارة فمظهران حادثان طرءا على الشمعة بعد إضائتها، فإذا انطفأت عادت إلى أصلها الواحد، وفاتهم أن هناك مصدراً ما أشعل الشمعة، فما دوره في الأقانيم الثلاثة وأين مكانه من هذا التشبيه؟ من كتاب "كُنتُ نصرانياً" لواصف الراعي، ص25.
إن هذا المثال إذن مخالف للثالوث النصراني الذي – بحكم صياغته – يقرر تعدد الشخصيات في الإله، وينسب – كما يرى البروفيسور عبد الأحد داود – خصائص شخصية منفصلة لكل شخص.
وقد ناقش البروفيسور هذه العقيدة من الوجهة الرياضية البحتة ليُبَين عدم تطابقها مع البديهيات العقلية، والعلم الرياضي هو أدق العلوم كما هو معروف.
قال: والرياضيات كعلم إيجابي تُعلمنا أن الوحدة ليست أكثر من واحد ولا أقل، وأن واحداً لا يمكن أن يساوي واحداً + وحداً + واحداً.
وبعبارة أخرى، فإنه لا يمكن أن يكون الواحد مساوياً لثلاثة؛ لأن الواحد هو ثُلُث الثلاثة، وقياساً على ذلك فإن الواحد لا يساوي الثُلُث؛ وبالعكس فإن الثلاثة لا تساوي واحداً، كما أنه لا يمكن للثُلُث أن يساوي الوحدة، والذين يقولون بوحدانية الله في ثالوث من الأشخاص إنما يقولون لنا إن كل شخص هو إله قدير موجود دائم أزلي وكامل؛ ولكنه لا توجد ثلاثة آلهة قادرين وموجودين ودائمين وأزليين وكاملين، ولكنه إله واحد قدير.
وإذا لم تكن هناك سفسطة في المنطق المذكور أعلاه فإننا سنطرح هذا اللغز الذي تقدمه الكنائس، ويكون طرحنا له بالمعادلة التالية:
إله واحد = إله واحد + إله واحد + إله واحد
أولاً: لا يمكن لإله واحد أن يساوي ثلاثة آلهة، بل يساوي واحداً منها فقط.
ثانياً: بما أنك تُسَلِّم بأن كل شخص إله كامل مثل قرينه؛ فإن استنتاجك بأن 1+1+1=3 ليس استنتاجاً رياضياً. من كتاب "محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس" لعبد الواحد داوود ص45، ترجمة فهمي شما، مراجعة وتعليق أحمد محمد الصديق.
ثم ينتقل البروفيسور بعد ذلك إلى مناقشة التثليث من الناحيتين المنطقية والعقائدية بناءً على تصور أن لكل شخص في الثالوث صفات لا تنطبق على الاثنين الآخرين وتدل هذه الصفات طبقاً للمنطق الإنساني واللغة الإنسانية على وجود قَبلية وبَعدية فيما بينهما؛ فالأب يحظى بالمرتبة الأولى ويتقدم على الابن. أما الروح القُدُس فهو ليس متأخراً فحسب لكونه الثالث في الترتيب العددي، بل إنه أقل من أولئك الذين انبثق منهم. من كتاب "محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس" لعبد الواحد داوود ص45، ترجمة فهمي شما، مراجعة وتعليق أحمد محمد الصديق.
ويلقي بعدئذٍ التساؤل الذي لا مفر منه للتمييز بين الإقرار بهذه العقيدة أو الزندقة: ألا يعتبر نوعاً من الإلحاد إذا ما أعيد ذكر هذا الثالوث بترتيب معكوس؟ ألا يعتبر إنشاء الصليب عند مشاهدة القربان المقدس أو تجاوز مبادئه نوعاً من الزندقة عند الكنائس إذا عكست العبارة وأصبحت على النحو التالي: باسم الروح القدس والابن والآب؟ لأنها إذا كانت متساوية ومتعاصرة فإنه لا داعي لمراعاة ترتيب الأسبقية بدقة؟ من كتاب "محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس" لعبد الواحد داوود ص45، ترجمة فهمي شما، مراجعة وتعليق أحمد محمد الصديق.
أما دفاع النصارى عن عقيدة التثليث بدعوى أنها حقائق هي وراء طور العقل والقياس فلا مناص من تصديقها من غير محاولة الاعتماد على العقل فيها، هذا الدفاع لم يقبله ابن تيمية في مجال مناقشة عقائدهم، فهو يرى ضرورة التمييز بين نوعين من الحقائق؛ أحدهما ما هو باطل ومستحيل عقلياً، والثاني ما يقتصر عنه العقل وجاءت الأنبياء لتوضحه، ولكن النصارى لا يُمَيزون بين ما يُحيله العقل ويبطله ويعلم أنه ممتنع، وبين ما يعجز العقل عنه فلا يعرفه ولا يعلم فيه بنفي ولا إثبات، وأن الرسل أخبرت بالنوع الثاني ولا يجوز أن تخبر بالنوع الأول. فلم يفرقوا بين محالات العقول ومحارات العقول، وقد ضاهوا في ذلك مَن قبلهم من المشركين الذين جعلوا لله ولداً وشريكاً. من كتاب "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح" لشيخ الإسلام ابن تيمية ص89 ج2، نقلاً عن كتاب "الحافظ أحمد بن تيمية" للإمام أبو الحسن الندوي ص204.
وزعْم الولد أو الابن لله تعالى دالٌ على استخدام ألفاظ الأنبياء – لو صحت – في غير مواضعها، فإن الموقف المنهجي الصحيح المُفَسِر لكلام الأنبياء يقتضي الاستمساك بظاهر كلامهم، فإن الابن ظاهره لا يراد به شيء من صفات الله، بل يراد به وليه وحبيبه، وروح القدُس لا يراد به صفته، بل يراد به وحيه وملكه، ولكن النصارى عدلوا عن ظاهر اللفظ إلى معنى لا يدل عليه البتة. من كتاب "الحافظ أحمد بن تيمية" للإمام أبو الحسن الندوي ص202.
قال ابن تيمية: فإذا وُجد في كلام المسيح عليه السلام أنه قال "عمدوا الناس باسم الآب والابن والروح القدس، ثم فسروا الابن صفة الله القديمة الأزلية كان هذا كذباً على المسيح حيث لم يكن في لغته أن لفظ الابن يراد به بصفة الله القديمة الأزلية، كذلك إذا لم يكن في كلام الأنبياء أن حياة الله تسمى روح القدس وإنما يريدون بروح القدس ما ينزله الله تبارك وتعالى على الأنبياء والصالحين ويؤيدهم. من كتاب "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح" لشيخ الإسلام ابن تيمية 181 ج3، نقلاً عن كتاب "الحافظ أحمد بن تيمية" للإمام أبو الحسن الندوي ص202.
كتبه: أ.د. مصطفى حلمي، رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكُلية دار العلوم، جامعة القاهرة.
من كتاب "الإسلام والأديان – دراسة مُقارنة".