30‏/07‏/2010

أوجه مرجعية السُنَّة إلى الكِتاب

إنَّ مرْجِع السُنَّة إلى الكِتاب، وذلك مِن وجهين:
الوجه الأول: إنَّ العمل بالسُنَّة والاعتماد عليها واستنباط الأحكام مِنها، إنما دَلَّ على ذلك القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا﴾ [سورة النساء-الآية59].
وقوله تعالى في مواضِع كثيرة: ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ وتكراره يدُل على عُموم طاعته، سواء مما أتى به في الكتاب، أو مما ليس فيه، إلى نصوص أخرى تُفيد هذا المعنى، مِثل قوله تعالى: ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [سورة الحشر-الآية7]، وقوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [سورة النور-الآية63].

الوجه الثاني: إنَّ السُنَّة إنما جاءت لبيان الكتاب الكريم وشرح معانيه، بدليل قولِه تعالى: ﴿وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [سورة النحل-الآية44]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [سورة المائدة-الآية67]، والتبليغ يشمل تبيلغ الكتاب وبيان معانيه.

فالسُنَّة بيان للكتاب، وشارحة لمعانيه، ومُفَصِّلة لمجمله.

كتبه: د. عبد الكريم زيدان
مِن كتاب: الوجيز في أصول الفِقه

21‏/07‏/2010

الفرق بين حُسن الظَّن والغُرور

حُسن الظن إن حَمَل على العمل وحث عليه وساق إليه فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي فهو غُرور.
وحُسن الظن هو الرجاء، فمَن كان رجاؤُه هادياً إلى الطاعة وزاجراً له عن المعصية؛ فهو رجاءٌ صحيح، ومَن كانت بطالته رجاء، ورجاؤُه بَطالةً وتفريطاً؛ فهو الغرور.
ولو أن رجلاً كانت له أرضٌ يؤمِّل أن يعود عليه مِن مُغِلِّها ما ينفعه، فأهملها ولم يبذرها ولم يحرثها، وحَسَّن ظَنَّه بأنه يأتي مِن مُغِّلِها ما يأتي مِن غير حَرْثٍ وبَذْرٍ وسقيٍ وتعاهدِ الأرض، لَعَدَّهُ الناس مِن أسفه السفهاء.
وكذلك لو حَسُنَ ظَنُّهُ وقَوِيَ رجاؤُه بأن يجيئه ولدٌ مِن غَيْرِ جِماع، أو يصير أعلم أهلِ زمانه مِن غير طَلَبٍ للعِلْم وحِرْصٍ تام عليه، وأمثال ذلك.
فكذلك مَن حَسُنَ ظنه وقويَ رجاؤه في الفوز بالدرجات العُلا والنعيم المقيم، مِن غير طاعةٍ ولا تقربٍ إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وبالله التوفيق.
وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة البقرة – الآية 218]؛ فتأمل كيف جعل رجاءَهُم إتيانهم بهذه الطاعات؟!
وقال المُغْتَرُّون: إنَّ المُفَرِّطين المُضَيِّعين لحقوق الله المُعَطِّلين لأوامره، الباغين على عِبادِه، المُتجرئين على محارِمِه، أولئك يرجون رحمة الله.
وسر المسألة: أنَّ الرجاء وحُسن الظنِّ إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حِكمةُ الله في شَرْعِه وقَدَرِه، وثوابِه وكرامتِه، فيأتي العبد بها ثم يُحْسِن ظنَّه بربه، ويرجو أن لا يَكِلهُ إليها، وأن يجعلها مُوصِلةً لما ينفعه، ويَصْرِف عنه ما يُعارضُها ويُبْطِل أثرها.

كتبه: الإمام ابن القَيِّم الجَوْزِيَّة، المُتَوفَّى سنة 751 هـ
مِن كتاب: الدَّاء والدَّوَاء

06‏/07‏/2010

تعليق على وفاة الكاتِب الحداثي نصر أبو زيد

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين،
قال الله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة البقرة – الآية 281].
فقد نشرت عدة مواقع إلكترونية، منها جريدة الأهرام على موقعها الاكتروني بتاريخ 23 من رجب 1431 هـ، الموافق  5 يوليو 2010 خبر وفاة الكاتب د. نصر حامد أبو زيد بعد إصابته بفيروس فشل الأطباء فى علاجه، حيث دخل فى غيبوبة لعدة أيام حتى وفاته المنية.
ومن المعلوم أن نصر أبو زيد من الكُتَّاب الذين ينتمون للمدرسة الحداثية التي تبالغ في تقديس العقل، بل وتُقَدِّمه على الوحي. وقد أثارت كتاباته الكثير من الجدل حتى تم اتهامه بالرِدَّة عن الإسلام وحكمت محكمة الأحوال الشخصية بالتفريق بينه وبين زوجته، ولكنه سافر مع زوجته أستاذة الأدب الفرنسي إلى هولندا حيث عمل أستاذاً للدراسات الإسلامية بجامعة (لايدن).

وهذه وقفة مع بعض كتاباته والتي تُعَبِّر عن أفكار تلك المدرسة المنحرفة التي تُسَمَّى بالعقلانية والحداثية، والتي ما زالت أفكار كُتَّابها تُطْرَح على الساحة تحت مُسَمَّى التنوير وحرية الفكر، ولم تترك هذه المدرسة شيئاً من ثوابت الدين إلا وطعنت فيه، ونسي أولئك أنهم مبعوثون ليومٍ عظيم، وأن الله رقيب عليهم، وأن ما يكتبونه بأيديهم سيكون وبالاً عليهم، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة المجادلة – الآية 6]،
وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [سورة الكهف – الآية 49].

وإليكم نموذجين من انحرافات نصر أبو زيد، ليتبين المنهج الفاسد لتلك المدرسة المسماة بالعقلانية و{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [سورة الأنعام – الآية 55].

·      النموذج الأول: دعواه أن القرآن الكريم مُنتج ثقافي منزوع القداسة
فيقول في كتابه (مفهوم النَّص – دراسة في علوم القرآن: ص56): "لقد تشكل القرآن من ثقافة شفاهية.. وهذه الثقافة هي الفاعل، والنَّص مُنفعِل ومفعول.. فالنَّص القُرآني في حقيقته وجوهره مُنتَج ثقافي".
وفات هذا المسكين أن القرآن الكريم هو كلام الله الموحى إلى رسوله محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وأنه ليس من كلام البشر وليس ناتج عن بيئة ثقافية أو تراكم فكري بشري، بل هو تنزيلٌ من الله العزيز الحميد.
قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْـزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [سورة الشعراء – الآيات 192، 193، 194، 195]،
وقال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْـزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فُصَّلَت – الآية 42]،
وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام – الآية 91].

ثم يدعو إلى إزالة القداسة عن نصوص القرآن تحت مسمى الحداثة ويتهم من يُقَدِّس النصوص بالرجعية، فيقول (مفهوم النَّص – دراسة في علوم القرآن: ص56): (والفِكر الرجعي في تيار الثقافة العربية هو الذي يُحَوِّل النَّص مِن نَص لغوي إلى شيء له قداسته).
ويقول في كتابه (التفكير في زمن التكفير: ص138): "النصوص في ذاتها لا تمتلك أي سلطة اللهم إلا السلطة المعرفية التي يحاول كل نص –بما هو نص– ممارستها في المجال المعرفي الذي ينتمي إليه".
وقد رد على هذه المقولة الباطلة د. خالد كبير علال في كتابه (وقفات مع أدعياء العقلانية، حول الدين والعقل، والتراث والعلم) فقال: "إن النصوص لها سلطة حقيقية من جهتين، هما: من جهة قائلها ومن جهة مضمونها، لكن الرجل أغفل سلطة القائل، وحرَّف سلطة المضمون، وذلك عندما حدد سلطة المضمون في السلطة المعرفية فقط.  وهذا لا يصح لأن سلطة النص ذاتية يحدد نوعها المضمون الذي يحمله، فقد يكون النص غير معرفي فيكون سلطة أمر ونهي، أو سلطة تحذير و وعظ، أو سلطة تبليغ وإعلان، أو سلطة شرح وبيان، أو سلطة ترغيب وترهيب، أو سلطة إعلان حرب".

وبهذا يتبين ما تنتهجه المدرسة الحداثية العقلانية –التي يتبعها نصر أبو زيد- حول الوحي والقرآن، يقول أ.د. ناصر العقل في كتابه (الاتجاهات العقلانية الحديثة – رسالة ماجيستير: ص158): "فللعقلية الحديثة تجاه الوحي عموماً تأويلات عِدَّة، تدور كلها على تفسيره تفسيراً مادياً وبشرياً، لا يعدو كونه نشاطاً من الأنشطة الإنسانية الفردية، وأنه جاء نتيجة تأثيرات روحانية أو قوى عقلية، أو انفعالات نفسية، أو تأملات باطنية، لبعض الأفراد الذين تميزوا بعبقرية فَذَّة في جانب أو أكثر من جوانب الشخصية الإنسانية، جعلتهم يصلون إلى ما يقدر عليه غيرهم من الإنتاج الفكري والإصلاح والروحي والعملي، كما كانت تقول المذاهب الصوفية والباطنية القديمة والحديثة".

وهذا يقودنا إلى نموذج آخر من الانحراف الفِكري والعقائدي.
·      النموذج الثاني: الدعوة إلى إحياء فِكر شيخ الصوفية الأكبر محيي الدين ابن عربي
وابن عربي من غُلاة التصوف الفلسفي –يلقبه أهل التصوف بالشيخ الأكبر وبالكبريت الأحمر-، وهو أحد القائلين بعقيدة وحدة الوجود، وصاحب "فصوص الحِكَم" و"الفتوحات المَكية"، والتي لا يخفى على أحد ما تحتويه هذه الكتب مِن كُفر وزندقة.

قال نصر أبو زيد في كتابه (هكذا تكلم ابن عربي: ص24): "ترجع أهمية فِكر ابن عربي إلى أنه يُمَثِّل قمة نضج الفكر الإسلامي في مجالاته العديدة، من فقه ولاهوت وفلسفة وتصوف، هذا فضلاً عن علوم تفسير القرآن وعلوم الحديث النبوي، وعلوم اللغة والبلاغة.. إلخ".
وأنا لا أدري كيف يُقال هذا المدح في شخص مِثل ابن عربي، القائل في كتابه (فصوص الحِكم): "إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة، ومن غيرته حَرَّم الفواحش، وأما فُحش ما بطن فهو لمن ظهر له، فلما حَرَّم الفواحش، أي منع أن تُعْرَف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء، فسترها بالغيب..". نقلاً عن كتاب (الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ – محمود عبد الرؤوف قاسم: ص58).
فهذا قول صريح بعقيدة وحدة الوجود الكُفرِيَّة " أنه عين الأشياء" –أي أن الله هو عين الموجودات وأن الخَلْق والخالِق شيء واحد- والعياذ بالله.

ثم يدعو نصر أبو زيد إلى بعث تجربة ابن عربي لحل مشكلات الحياة التي يواجهها العالم، فيقول في كتابه (هكذا تكلم ابن عربي: ص26): "إن استدعاء ابن عربي –مع غيره من أعلام الروحانية في كل الثقافات- يُمثل مطلباً مُلِحاً، لعلنا نجد في تجربته وفي تجاربهم ما يمكن أن يُمثل مصدراً للإلهام في عالمنا الذي سبق أن ألمحنا لبعض مشكلات الحياة فيه".
ثم يبين نصر أبو زيد علاقته الوثيقة بابن عربي، فيقول: "لكن العودة للسباحة في المحيط الهادر لابن عربي ظل حلماً يراودني دون أن أخاطر بالمغامرة مرة أخرى، ومع ذلك فإن علاقتي بالشيخ الأكبر لم تنقطع أبداً، فجزء لا يستهان به أبداً من تكويني الأكاديمي ومن تجربتي الدينية الروحية في الحياة، أدين به للخبرات التي اكتسبتها من خلال اللقاء الأول بالشيخ الأكبر".(هكذا تكلم ابن عربي: ص13).

ويتبين لنا من هذين النموذجين السابقين حِرص رُوَّاد تلك المدرسة على الطعن في الدين، بمحاولة التشكيك في مصدرية الوحي الربانية، وبمحاولة بعث أفكار أئمة الكُفر والزندقة وإحياء التراث الباطني.

وختاماً، فهذا ما يسر الله لي جمعه، فما كان من توفيق فمِن الله وحده، وما كان من نقص أو خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان.

قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ٍسورة آل عِمران – الآية 8].

كتبه: حاتم الحاجري،
عفا الله عنه

02‏/07‏/2010

أهمية الأُسرة وعناية الإسلام بها

ينبثق نظام الأسرة مِن معين الفِطرة وأصل الخلقة وقاعدة التكوين الأولى للأحياء جميعاً وللمخلوقات كافة، وقال جل شأنه: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [سورة الذاريات – الآية 49]، وقال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [سورة يس – الآية 36].
وإن النظام الإسلامي يجعل الأسرة هي العمود الفقري الذي يقوم عليه المجتمع الإسلامي، وقد أحاطها الإسلام برعاية عظيمة في كل مراحل تكوينها، وقد استغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهداً كبيراً، وأحاطها كذلك بكل المقومات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكُبرى للمجتمع المسلم.
ونظراً لأهمية هذه القاعدة في تكوين النظام الاجتماعي، ربطها الإسلام بجاذبية الفِطرة بين الجنسين، حيث أودع في كل طرف رغبة مُلِحَّة للطرف الآخر لتحقيق المَوَدَّة والسكينة التي يبحث عنها كل منهما لدى الآخر، وما ذلك إلا لتتجه إلى إقامة الأسرة القوية وتكوين البيت الصالح الذي يتكون من مجموعهما المجتمع الصالح، قال جل شأنه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا  لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [سورة الروم – الآية 21]، وقال عز من قائل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [سورة النحل – الآية 80].
إن الأسرة هي الوضع الفِطري الذي ارتضاه الله تعالى لحياة الناس منذ فجر الخليقة وفَضَّلَه لهم، واتخذ من الأنبياء والرُّسُل مثلاً، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ  قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [سورة الرعد – الآية 38].
إن الفطرة التي فطر الله الزوجين عليها، وهذه المَوَدَّة التي يتوق إليها كل طرف ويبحث عنها لدى الطرف الآخر، وتلك السكينة التي تُظلل هذه الخلية الناشِئة، وهذه الرحمة التي تغمر قلبي طرفيها؛ هذه المعاني كلها، تجعل الرجل يندفع للارتباط بأنثاه، مُضَحياً من أجلها بماله، ومُغَيراً طريقة حياته مستبدلاً بروابطه السابقة روابط أخرى، وهي التي تجعل المرأة تقبل الانفصال عن أهلها ذوي الغَيْرة عليها وتترك أبويها وإخوتها وسائر أهلها لترتبط بالزواج برجل غريب عنها تُقاسمه السَّرَّاء والضَّرَّاء، وتسكن إليه ويسكن إليها، ويكون بينهما من المودة والرحمة أقوى ما يكون بين ذوي القُربى، وما ذلك إلا لثقتها بأن صلتها به ستكون أقوى من أي صلة، وعيشتها معه أهنأ مِن كل عيشة، وهذا ميثاق فِطري مِن أغلظ المواثيق وأشدها إحكاماً.

كتبه: أ.د. أحمد علي طه رَيَّان،
العميد الأسبق لكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر
مِن كتاب: فقه الأسرة