27‏/05‏/2013

هذا ملتزم وهذا غير ملتزم!


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد:

فإن المسلمين يتفاوتون فيما بينهم في مقدار الاستقامة والصلاح والتمسك بتعاليم دينهم باطنًا وظاهرًا، وعلى ما بينهم من التفاوت العظيم من ارتكاب الموبقات إلى أعلى مراتب الورع؛ إلا أنهم مشتركون في القاعدة الجامعة وهي التوحيد ومطلق الإيمان، وهذا يمنحهم اشتراكًا في الحرمة والحقوق، فـ "كل المسلم على المسلم حرا م: دمه وماله وعرضه"، فلم يفرق صلوات والله وسلامه عليه بين الصالح والفاسق. وقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بعَضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعَض [التوبة: 34]، وهذا يعم كل من صدق عليه اسم الإيمان.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيهُّا الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الحُرُّ بِالحُر وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء فَاتبَاع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَان ذَلِكَ تَخْفِيف مِنْ رَبكُمْ وَرَحمَة فَمَنِ اعْتَدَى بعَدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَاب أَلِيم [البقرة: 432].
فانظر - رعاك الله - كيف جعل القاتل أخًا للمقتول؟
وقال جل وعلا: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بيَنَهُمَا فَإِنْ بغَتْ إِحْدَاهمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا التِي تَبْغِي حَتى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بيَنهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِن اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة فَأَصْلِحُوا بيَنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتقُوا اللهَ لَعَلكُمْ ترُحمُونَ[الحجرات: 9-10].
فهاهو ولاءُ الإسلام وهاهي إخوته تتسع دائرتها حتى تشمل المسلمين جميعًا، محسنَهم ومسيئهم، برهم وفاجرَهم حتى من ارتكب أعظم الموبقات بعد الشرك بالله - وهو القتل -.
إن حقًا على المسلم أن يوالي كل مسلم مهما أسرف على نفسه، وأيًا كان مظهرُه، وأينَما كان بلدُه، وإن كان الولاء يزيد وينقص بسب ما عُلق به من وصف الإيمان كمالًا ونقصانًا. لكن أصل الولاء لم تَضِقْ دائرته إلا عن المشركين والمنافقين.
فليس للمسلم إذن أن يوزع ولاءاته حسَبَ مصالحِه وأهوائه.
وإذا كان المسلمُ ممنوعًا من أن يسع ولاؤه غير المسلمين؛ فمن الخطأ المنكر كذلك أن يحجمَ ولاءَه في دائرة أضيقَ من دائرة الإسلام، فيجعلَه مخصوصًا بطائفة أو بلد أو عِرق أو حزب.

إن أحدَنا ليس بأغيرَ من الله على دينه حتى يَضِيق مطلقُ ولائه عن بعض عصاة المؤمنين، فهذه غَيرة لا تُحمد؛ إذ هي تحجرُ واسعًا وتنفر قريبًا، فلا تزيد هذا العاصي القريب إلا بُعدًا عن الطاعة وإسرافًا.
وهذا باب غير باب هجر أهل المعاصي؛ فإن لذاك فقهًا في التأصيل والتطبيق ليس ذا مجالَه.
وتأمل معي - حفظك الله - قول الله تعالى: ﴿ثُم أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْ هُمْ ظَالِم لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِد وَمِنْ هُمْ سَابِق بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير[فاطر: 32].
فهاهم المؤمنون كلُّهم مُحسنهم ومسيئهم ومسرفهم ومقتصدهم وأولهم وآخرهم قد أشركهم الله جميعًا في وصف تشريفي يمتازون به على غيرهم، وهو الاصطفاء، فكيف لا يكونون كلُّهم في أصل المحبة والولاء مشتركين؟!
لقد كانت مجتمعات المسلمين ولا تزالُ أمشاجًا مختلطةً، ففيها الظامُ لنفسه، وفيها المقتصدُ، وفيها السابق بالخيرات بإذن الله، وستظلُ كذلك كما هي سُنة الاختلاف.
وهذا التفاوت يعم أعمال القلوب وأعمال الجوارح كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في غير موضع.
فالأَولى أن يكون هذا التفاوتُ في درجة الصلاح داعيًا إلى التناصحِ، لا إلى التنافرِ والتضاد؛ فإن هذه الأمشاجَ على تفاوتِها في الدرجات تلتقي في قاعدة مشتركة عريضة هي خيرُ وأعظمُ ما يمكن أن يلتقيَ عليه المختلفون، ألا وهي قاعدة الإيمان والتوحيد.
ونحن معنيون أن نبحث عما يُجمع من الأصول، لا أنْ نُفرقَ بالفروع، فذلك يفقدنا خيرًا كثيرًا موجودًا بين الناس.
والقدْرُ المشترك الذي يلتقي فيه المسلمون كلُّهم في هذا المجتمع متمثل في دائرةِ التوحيد وأصول الإيمان العريضة التي لا يمكن أن يندّ عنها فرد من المسلمين مهما أسرفَ على نفسه بالمعاصي؛ لأن الخروج عنها يعني الخروج من دائرة الإيمان إلى دائرةِ الكفر.
وهذا القدر المشترك هو أعظم شيء جاءت به الرسل والأنبياء، والتقت عليه رسالاتهم، وهو أعظمُ الأمور التي يمكن أن نلتقي عليها.
فلماذا لا نجعل هذا القدر المشترك هو الرابطةَ التي يجتمع حولها المسلمون ظالمهم ومقتصدُهم وسابقُهم، يأتلفون عليها ويتحابون في ظِلالها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُذكرُ بهذا القدْرِ المشتركِ كلما بدتْ بين المسلمين نُفرة أو ظهرت منهم على أحد غِلظة أو جفوة.
خرَّج الشيخان عن عِتبان بن مالك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، فلم أستطع أن آتي مسجدهم فأصليَ لهم، ووددت يا رسول الله أن تأتيَني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، فأتى رسول الله فقال: "أين تحب أن أصلي من بيتك؟" فأشرت إلى ناحية من البيت، فصلى، وآب إلى البيت رجال من أهل الدار، فقال قائل منهم: أين مالك بن الدُّخْشُنِ؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، ود بعضُهم أن النبي دعا عليه فهلك، وودوا أنه أصابه شر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟!" فقالوا: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، فقال: "لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخلَ النار أو تطعمه".
وفي صحيح البخاري عن عمر أن رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشرب الخمر، فيؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجلدُه، فأُتي به يومًا فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فقال: "لا تلعنوه؛ فوالله ما علمتُ إلا أنه يحب الله ورسوله".
فهذا الذي ذكَّر به النبيُ صلى الله عليه وسلم من حال ذلك الرجل لم يكن شيئًا متميزًا يبز به أقرانه، بل فيهم - قطعًا - من هو أولى منه بهذا الوصف، وإنما ذكَّر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك القدر المشترك الذي يجمعهم به في رباط واحد ووشيجة واحدة، ألا وهو محبةُ الله ورسوله.
على أن المتأمل يلحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقَل هذا الكلام والرجلُ يقارف المعصية، فذلك مدعاة إلى أن يحتقر تلك المعصية ويفرطَ في التوبة، ولكن قالها بعد أن كفر عن ذنبه بالحد؛ ليشعره ويشعرهم أن قلبه لا يزال طيب الغراس حسن المنبت، وفي الإمكان أن يكون خيرًا مما كان.

وهكذا الظالم لنفسه من أهل الإيمان يكون فيه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره، فالشخص الواحد قد تجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب والسيئات المقتضية للعقاب حتى يمكن أن يثاب ويعاقب وهذا قول أصحاب رسول الله وأئمة الإسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
ودلائل هذا الأصل من الكتاب والسنة وإجماع الأمة كثير.
وأما الوعيدية القائلون بالتخليد كالخوارج أو المعتزلة القائلين إنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة وإنه لا شفاعة للرسول صلى الله عليه وسلم ولا لغيره في أهل الكبائر لا قبل دخول النار ولا بعدها؛ فعندهم لا يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب وحسنات وسيئات بل من أثيب لا يعاقب ومن عوقب لم يثب.

إن تحجيمَ الولاء في دائرة ضيقة تحكمُها بعضُ سمات الصلاح الظاهر يُفضي إلى تشطير المجتمع إلى فئاتٍ متنافرة، أو على أقل تقدير: غيرِ متعاونة، تتسع بينها الفجوةُ والجفوة، وتصبح كأننها لا تلتقي على شيء.
فالواجب أن توضع هذه السماتُ الظاهرة حيث وضعها الشرع بلا تهويل ولا استهانة، والذي يعني أنها شعيرة من الشعائر، لا شارة كمال تُضفي على صاحبها الصلاحَ المطلق، ولا أن تُجعلَ أصلاً من أصول الإسلام يكون فرقانًا بين الولاء والبراء والمحبة والبغض. ومتى أُعطِيَتْ أكثر من ذلك تواردتْ عليها اللوازمُ الباطلة، من إطلاق الصلاح بإطلاق، أو نفيِه بإطلاق.
وينبغي أن يفطنَ إلى أن وجود بعضِ سمات الصلاح الظاهر لا يدل على كمالِ صلاحِ الباطن بالضرورة، وعدم وجودها لا يدل بالضرورة على كمال فساد الباطن، فلماذا يجعلها بعضُنا حَكَمًا يفرض عليه طريقةَ التعامل ويصرف العلاقات؟!
وكيف يُعول على أمر لا يدل إلا على نفسه؟!
وقد قال العليم الخبير تبارك وتعالى في المنافقين: ﴿وَإِذَا رَأَيْتهُمْ تعُجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يقَولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنهُمْ خُشُب مُسَندَة [المنافقون: 4].
واستفاض في الصحاح والسنن وغيرها من حديث علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الخوارج فقال: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد".

إنك قد تفتقدُ في بعض الناس بعضَ السمات الظاهرة للصلاح، لكننك لا تفتقد فيه معالم أخرى للصلاح؛ كطيبة القلب وعِفة اللسان وسلامة الفكر ولين الجانب وسخاء اليد في المعروف والحرص على الصلاة والتذمُّمَ للناس وأداء حقوقِهم، فهل تلغَى هذه المعالم العظيمة للصلاح لأجل افتقاد شيرء من السمات الظاهرة للصلاح؟!
لابد أن يصحح مفهوم التدينن لدى الناس، حتى يدركوا أن وصفَ التدين لا تحتكرُه سمات خاصة بالمظهر تمنحُ هذا اللقب كل من قامت به وتخلعُه عن غيره، وأن هذا الوصف الجليل لا يختص بطائفة تتميز بمظهرها فقط.
إن مفهوم التدين الذي ينبغي أن ننصاع إليه وتتنزن بها النظرة هو غلبةُ خيرِ الإنسان مع تحقيق أصول الإسلام وأركانِه، فإذا تحقق فيه ذلك كان أهلاً أن يضفَى عليه هذا الوصف الممدوح. والناس بعدُ متفاوتون في درجات الكمال "ولكل درجات مما عملوا".
ونحن نقصد من تصحيح مفهوم التدين إلى أن نزيلَ النفرة التي قد تبدو من بعض الناس تُجاه آخرين، ولأجل أن نبطلَ طريقة التمييزِ الخاطئة، والتي تعول على أول نظرة للظاهر دون سبر للأخلاق والفكر والمشاعر.
وإلا فقل لي بربك: إذا كان من أعفى لحيته وقصر ثوبه يوسم بالالتزام والتدين- عند طائفة - ولو كان مقصرًا فيما هو من أعظم الحقوق كحق الوالدين والأرحام والزوجة ونحوها، أفلا يكون من قام بهذهالحقوق أحق بهذه السمة من صاحبه ولو حلق لحيته وأسبل ثوبه؟!
فماذا لو أضيف إلى ذلك حسن الخلق وصدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالوعد وطلاقة الوجه وسلامة الصدر ... فلو كان هذا غيرَ مستحق لوصف التدين فالأول كذلك بل أولى.
إننا أضحينا نئن من سوء أخلاق ومعشر بعض هؤلاء الموسومين بالتدين بلا بينة ولا برهان إلا بعض سمات الظاهر.
في وقت نرى بعضًا ممن تفتقد فيه بعض هذه السمات محققًا لأصول الإسلام، حسنَ الأخلاق كريمَ السجايا.
أفيقاس النفع المتعدي بالقاصر؟!
وماذا تستفيد الزوجة مثلًا من زوج صوام قوام لكنه بخيل غليظ جاف سيء المعشر؟
وهل هو أنفع لها ممن يؤدي الفرائض ولايزيد ثم هو يكرمها ويعاشرها بالمعروف؟!
وقل مثل ذلك في الأصحاب والخلان، وفي الوظائف والتجارات...
إن اختزال وصف التدين في الظواهر - مع أهميتها - بات خطئًا كبيرًا، فكيف ببعض الظواهر؟!
بل كيف بما يدخله التأويل ويسوغ فيه الخلاف منها؟!

وليعلم أن تصحيح مفهوم التدين وتوسيع دائرته يجعلنا جميعًا مسؤولين أمام كل هجمة تُراد بها عقيدتنا ومناهجنا وتديننا بعامة.
إن الأقلام الليبرالية والعلمانية المسمومة ما فتئت تساوم على ما بقي من القيم لدى مجتمعاتنا، وقد اجترأتْ على لمز الدين والطعن في مناهج الدعوة والنيل من أعلام الأمة، فتوجهت في خطابها إلى فئة مخصوصة قصدتهم قصدًا؛ لتجعل منهم مطيةً إلى تلك الغايات الدنيئة، وأطلقت عليهم وصفَ (الإسلاميين)، لتجعل باقي المجتمع في وضع الحياد معها، وكأننا في مجتمع ملحد مرجعيته لغير الإسلام.
مع أن القضية في المرجعية غير القضية في العمل لأنها في المرجعية قضية إيمان وكفر ولا ثالث لهما، ﴿يَا أَيهُّا الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تؤُمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْر وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[النساء: 59 ], ﴿أَلمْ تَرَ إِلَى الذِينَ يزَعُمُونَ أَنهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يتَحَاكَمُوا إِلَى الطاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشيْطَانُ أَنْ يُضِلهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لهَمُ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا[النساء: 60-61]، ﴿فَلَا وَرَبكَ لَا يؤُمِنُونَ حَتى يُحَكمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بيَنَهُمْ ثُم لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِما قَضَيْتَ وَيُسَلمُوا تَسْلِيمًا[النساء: 65].

أما في العمل فثَم العاصي والمسرف على نفسه، وثَم التقي الورع.
وهؤلاء الخبثاء من أعداء الإسلام يريدون من خلال هذه التسميات ومن خلال توجُّهِ نقدهم ولمزهم إلى فئة مخصوصة يريدون أن يجعلوا باقي فئات المجتمع بمعزل عن المواجهة والمسؤولية في دفع هذه الحملة المغرِضة.
وهم خاطئون عن عمد وخبث بهذا الإطلاق، ويخطئ معهم من يفهم أن الإسلاميين فئة لها سمات معينة هي المعنية بهذه الهجمة، ويظل غيرهُم في مأمن من الفتنة.
إن هذا القدر المشترك بيننا من أصول التوحيد وأركان الإيمان يُحملنا جميعًا مسؤولية الدفاعِ عن هذا الدين والذب عن منهج المصطفى.
فكل مسلم تَحاكُمُه إلى الله ورسوله ومرجعيتُه الكتاب والسنة فهو إسلامي وليس ثم مسلم إلا كذلك ومن سواه فليس من المسلمين.

ثم إذا كان ظاهر الإنسان لا يدل على باطنه ولا على فكره ولا أخلاقه بإطلاق، فمن باب أولى أن لا يدل على باطن غيره وفكره وأخلاقه، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يؤخذ أحد بجريرة غيره، إنما من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها.
وقد نرى شخصًا واقعًا في فاحشة أو مرتكبًا لكبيرة موبقة، وقد تفتقد فيه بعض سمات الصلاح الظاهر، فهل يعني هذا لزامًا أن يكون كل من شاكله في الظاهر مشاكلاً له في السلوك والفكر والباطن؟!
كلا، ولا أظن عاقلاً يرى غير هذا. فإذا كان هذا فكذلك الأمر بالعكس، إذا رأينا شخصًا قد وقع في موبقة أو غلو وعليه شيء من سمات الصلاح الظاهر، فهذا لا يعني أن كل من شاكله في هذا الظاهر مشاكِل له في الفكر والسلوك والباطن.
وعلى هذا لا يجوز أن تُجعل بعضُ السمات ميسمًا يُعرف به الإرهاب والغلو، لا سيما إذا كانت سنةً ثابتةً عن المصطفى .

وأخيرًا، فكل شعيرة من شعائر الإسلام صغيرةً كانت أو كبيرةً هي جزء من هذا الدين من أتى بها فهو أكمل من غيره في هذه الجزئية بعينها ولا يلزم من ذلك التفضيل المطلق.
ثم لا يجوز لأحد التحقير من شأن شعيرة ولا الاستهزاء بها، ولا الاستهانة بقدرها، ولا السخرية من أصحابها، فإن الاستهزاء بشعيرة من شعائر الإسلام كفر مخرج من الملة، ﴿قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بعَدَ إِيمَانِكُمْ﴾، وأما الاستهزاء بمن قامت فيه تلك الشعيرة فهو سخرية بإنسان محفوظ الكرامة والعرض في الإسلام، وقد قال جل ذكره: ﴿يَا أَيهُّا الذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوم مِنْ قَوْم عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاء مِنْ نِسَاء عَسَى أَنْ يَكُن خَيْرًا مِنْهُن وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابزَوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بعَدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لمْ يتَبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظالِمُونَ[الحجرات: 11]،
وقال صلوات الله وسلامه عليه: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".

وبعد:
فهذا المقال يهدف إلى تصحيح المفاهيم، ومراجعة بعض التوجهات والأفكار غير المنضبطة، ليتحقق التعاون على البر والتقوى، ويسود بين عباد الله التكامل ويتآكل التآكل.
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


محمد الأزهري الحنبلي
مجلة "حُراس الشريعة" – العدد الأول
جمادى الأولى 1434هـ

23‏/05‏/2013

في الطريقِ إلى العَلمانية


"الأحكام الشرعية لا يصلح  فيها الإلزام أو المنع؛ مَن أحب أنْ يُصلي أو يُزكي أو يترك الحرام فهو إنسان يعرف مصلحة نفسه، ومَن لم يفعل فلا يصلح أنْ نُلزمه أو نمنعه لأنَّ هذا شأنٌ بينه وبين ربه".

هذا فحوى ما سمعته في سياق حديثنا الوِدِّي مع سائق الأُجرة الذي تكرَّم بإيصالنا ذات يوم، ودَّعتُه ثُم فارقته، وقد آذتني هذه الجملة كثيراً، ليس لأني أسمعها للمرة الأولى، فمؤدَّاها متكدِّس في المقروء والمسموع، لكن المؤذي فيها أنها تصدُر مِن رجل الشارع العادي، وتترجم معنى حاضراً بقوة في الثقافة الشعبية لعالمنا العربي والإسلامي.

إذا كانت الأوامر الشرعية غير مُلزِمة والنواهي غير ممنوعة، فإنَّ السَّيْر على هذا الطريق يوصلك إلى بوابة العَلمانية وإنْ لعنتَها وبصقتَ عليها. فالعَلمانية تعني فصْل الدِّين عن الدولة، بمعنى عزل الأحكام الاشرعية أنْ تكون مؤثِّرة في نظام عام مُلزِم للناس، وحين تكون الأحكام الشرعية شأناً خاصاً يُحمَد فاعله ولا يُتَعرَّض لتاركه وليس لها تعلُّق بنظامٍ أو سُلطة، فنحن بهذا في وسط باحة العَلمانية.
إنَّ إسقاط الإلزام والمنع مِن الأحكام الشرعية هو مِن مفاصل النزاع مع الفِكر العَلماني؛ فالفلسفة العَلمانية لا تمانِع مِن حضور الطاعات وترك المنهيات لاعتبارات دينية لدى الناس، بل إنها قد تحمي ذلك وتحرسه ما دام شأناً خاصاً لا يؤثِّر على الآخرين ولا يترتب عليه منع أو فرض لهذه الأحكام وإعلاء لها إلى مقام التقنين والإلزام، ومثل هذا سيؤدي إلى تعطيل الأحكام الشرعية عن القيادة والحُكم وإنْ كانت حاضرة في الوجود لمَن أحب.

إنَّ الأوامر والنواهي الشرعية في كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلَّم مُتَّجِهة إلى الفرد والمجتمع، ومُتعلِّقة بخاصة المسلم وبنظامه الذي يحكمه؛ فالمسلم حين يقرأ قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [سورة البقرة - الآية 43]، وقوله سبحانه: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ [سورة النِّساء - الآية 11]، وقوله سبحانه: ﴿وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [سورة النِّساء - الآية 22]، فإنَّ هذا الخطاب مُتَّجِه للفرد بأنْ يمتثل أوامر ربه ويتجنب نواهيه، ومُتَّجِه أيضاً للمجتمع ليحكم بما يريد رب العالمين منه، ولم يكن أحد مِن السابقين يظُن أنَّ هذا الخطاب مُتَّجِه للفرد، وأما الجماعة فشيء آخَر، فالتفكير بهذه الطريقة إنما هو مِن رواسب التأثير العَلماني المُكَثَّف في عقول الناس؛ حيث أحدث لكثيرٍ منهم حمل أوامر الشريعة ونواهيها على الشأن الخاص للفرد فقط دون النظام والمجتمع.
لا أدري كيف يتعامل هذا التفكير مع العقوبات الشرعية المُحدَّدة في كتاب الله، في قطع يد السارق وجلد الزاني والقاذف، فالحُكم هنا تجاوز مجرد الإلزام أو المنع الذي يستكثرونه على الشريعة إلى العقوبة المُحدَّدة، وحتى الأحكام التي لم تَرِد الشريعة بعقوبات مُحدَّدة لها هي مِن الجرائم التي تستحق التعزير بحس حال الذنب وصاحبه والعوارض المُحتفَّة به [والتعزير مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وهو محل اتفاق بين العلماء. انظر: مجموع الفتاوى (ج30/ص39) و(ج35/ص402)، الطرق الحكمية (ص134)]. فالأموامر والنواهي لا تقف فقط حد الإلزام والمنع، بل تصل إلى حد العقوبة، وهو أمر أعلى مِن مجرد الإلزام.
وأعلى مِن هذا كله أنَّ الله تعالى قد أَمَرَ بالتحاكم إلى ما أَنْزَل، ووصف المستنكفين عنه بالأوصاف العظيمة ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة - الآية 44]، ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ﴿هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، بما يَفهم منه كل مسلم أنَّ أحكامَ الشريعة أحكامٌ قضائية عُليا مُلزِمة، وأنَّ الحُكم بها والفصل بين الناس بِناءً عليها مِن قطعيات الشريعة، ومَن ينفي الإلزام والمنع كيف يستقيم على فهمه وجود حُكم بغير ما أنزل الله؟ وما دامت الأوامر والنواهي شأناً خاصاً فما معنى الحُكم إذن؟

وتجد في كتاب الله ثناءً عظيماً على هذه الأُمَّة ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [سورة آل عِمران - الآية 110]، وأعطاها الله أماناً مِن الهلاك ما دامت ممتثلة له ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [سورة هود - الآية 117]، وقد فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلَّم في جوابه عن سؤال زينب بنت جحش رضي الله عنها: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نَعَم إذا كَثُرَ الخبث" [أخرجه البخاري (ح3403)، ومسلم (ح7418)].
وبقوله صلى الله عليه وسلَّم: "والَّذي نَفسي بيدِهِ، لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عنِ المنكرِ أو ليوشِكَنَّ اللَّهُ أنْ يبعثَ عليكُم عقابًا منهُ ثمَّ تَدعونَهُ فلا يَستجيبُ لَكُم" [مِن حديث حُذَيفة رضي الله عنه، أخرجه الترمذي وحسَّنه (ح2169) وحسَّنه الألباني]، فانتشار الخبث سببٌ لهلاك الناس حتى الصالحين منهم، ما دام وجودهم لم يكن سبباً للتقليل مِن الخَبَث الذي لن يتحقق دون إلزام ومنْع.
كما بَيَّن النبي صلى الله عليه وسلَّم مراتب هذه الخيرية فجَعَل الإلزام والمنع هو أول هذه المراتب وأعلاها، فقال صلى الله عليه وسلَّم: " مَن رأى مِنكُم مُنكرًا فليغيِّرهُ بيدِهِ، فإنْ لَم يَستَطِع فبِلسانِهِ، فإنْ لم يستَطِعْ فبقَلبِهِ، وذلِكَ أضعَفُ الإيمانِ" [أخرجه مسلم (ح186)].

وإذا زال الإلزام بأوامر الله والمنع عن مناهي الله لم يكن ثَم ميزة لهذه الأُمَّة إلا مُجرد أنْ تفعل المعروف وتترك المنكر، وإذا حسُن أمرها نصحت بالكلام مِن غير نظام ولا إلزام ولا سلوك عام، وليس في هذا ميزة يُفتَخَر بها؛ لأنَّ فِعل المعروف ونُصح بعض الناس به تفعله كل الأُمم والحضارات، فأي شيء يُمَيِّز أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلَّم؟

لا شك بعد هذا أنَّ الإلزام والمنع سيكون بالحكمة والموعظة الحسنة، ولن يكون مَرَدُّه إلى آحاد الناس مطلقاً، ولن يُطالَب الإنسان بشيء مِن ذلك في حالة الضعف وعدم القدرة، أو في حالة ترتَّب عليه مفسدة أعظم منه، فكل ذلك مِن القواعد الشرعية المستحضرة في هذا المقام، وهي مِن مُكَمِّلات أصل الإلزام في الشريعة، ولا يجوز أنْ تُتَّخَذ أداة لتكسير هذا الأصل.

أعرف جيداً أنَّ صاحبنا حين قال هذه الجملة لم يقصد حقيقتها ولم يُدرِك لوازمها، وأجزم أنه سيتعوَّذ بالله ويستغفره مِن مثل هذا القول في مواطن أخرى، لكن هذا لا يعني التهاون مع مِثل هذه المفاهيم؛ لأنَّ استمرار حضورها مع ضعف البيان يعطيها الوقت للبقاء والتمدُّد وشق أخاديد الانحراف في عمق المجتمعات المسلمة، لتنساب بهدوء مِن حيث لا نشعر في طريقها إلى العَلمانية.


كتبه: فهد العجلان
مِن كتاب: معركة النَّص

14‏/05‏/2013

عاصمة من قاصمةِ النظم السياسية غير الإسلامية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،

أما بعد:

فإن المعترك الفكري في العالم المعاصر يمتلئ بكثير من المصطلحات الوافدة التي تساق إلينا سوقا، وتأخذ نصيبا وافرا من النقاش والجدل والصراع حولها؛ ما بين مؤيد ومعارض ومتحفظ، وما بين متبصر لحقيقة كل مصطلح وآخر يهرف بما لا يعرف.
وفي ظل الضوضاء الصاخبة التي تصاحب تلك المصطلحات، وتحت تأثير سيل جارف من وسائل التربية والتعليم، والنشر والإعلام، والفكر والثقافة، أصبح  كثير من المسلمين مشوشي الفكر مضطربي الرؤية، فهم لا يعلمون عن حقيقة هذه المصطلحات إلا الاسم والشعار، دون تبصر لأبسط أسس هذه المصطلحات، فضلا عن معرفة حقيقة المعترك المقام حولها، ورؤية كل فريق وهدفه؛ فتجد من يعلن حبه للإسلام ودين الإسلام، وهو في ذات الوقت يطالب بتطبيق ما يناقض الإسلام في هذا النظام أو ذاك، وهذه الفكرة أو تلك.
وغزا المجتمع سيل من مصطلحات النظم  السياسية غير الإسلامية؛ كالعلمانية، والعلمانية الشاملة، والعلمانية الجزئية، والليبرالية، والديمقراطية، وآليات الديمقراطية، والتكنقراطية، والدكتاتورية، والرأسمالية، والاشتراكية، والدولة الدينية، والدولة المدنية، والمجتمع المدني، والملكية الدستورية.. إلخ.

والحقيقة الجلية هي أن الإغراق في مناقشة تفاصيل تلك المذاهب، لا يناسب الخطاب الجماهيري العام، الذي تشتبه عليه المصطلحات، وتلتبس أمامه الرؤى، فلا يستطيع تبعا لذلك التمييز بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والهدى والضلالة.
وأمام هذا اللبس الواضح في المجتمع، فإن على من حمل هم تبصير الناس بحقائق الدين الجلية أن يعمل جاهدا لإنقاذ عموم المجتمع من مزالق الفكر ومهاوي الضلالة، المتضمنة في تلك المصطلحات.

وهاك عاصمة من قاصمة تلك النظم السياسية غير الإسلامية:
* تبيين موقف تلك المذاهب من تفاصيل وجزئيات نظام الحكم الإسلامي:
إن من الأمور الأساسية التي أدت إلى الاشتباه الحاصل في أذهان الكثيرين هو الإجمال الموهم، والاختصار المخل، وتلمس ما يمكن أن يكون وجه شبه بين جانب من جوانب الحكم في الإسلام، وجانب من جوانب الحكم في تلك النظم غير الإسلامية.
فمثلا عندما يركز المتحدث حديثه عن أهمية العدل في الإسلام، وحرص تلك النظم على العدل في الحكم، يغيب عن ذهنه أنه ما من أمة من الأمم إلا وتتغنى بالعدل، ولكن شتان بين العدل الحق وهو القائم على شرع الله جل وعلا، وما يحسبه البعض عدلا ولكنه في الحقيقة ظلم وإفساد في الأرض؛ لأنه قائم على أسس تخالف شرع الله جل وعلا، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لهَمُ لَا تفُسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة: 42 44]، قال ابن تيمية: "فَمَنِ اسْتَحَل أَنْ يَحْكُمَ بيَنَ الناسِ بِمَا يرَاهُ هُوَ عَدْلًا مِنْ غَيْرِ اتبَاع لِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَهُوَ كَافِر؛ فَإِنهُ مَا مِنْ أُمة إِلا وَهِيَ تَأْمُرُ بِالحُكْمِ بِالْعَدْلِ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَدْلُ فِي دِينِهَا مَا رَآهُ أَكَابِرُهُمْ ". [منهاج السنة النبوية: 5-130].
ويدخل في ذلك من يتحدث عن عطف الإسلام بالفقراء ورحمته بهم، ثم يتحدث عن نظرة الاشتراكية للفقراء، وكذلك من يتحدث عن حث الإسلام على العمل والتجارة، ثم يتحدث عن النظرة الرأسمالية للكسب، وكذلك من يتحدث عن الشورى في الإسلام، ثم يتحدث عن الانتخابات في الديمقراطية، وكذلك من يتحدث عن أهمية العلم في الإسلام، ثم يتحدث عن الحكم العلماني أو حكم المتخصصين في التكنقرايطة...إلخ

والواقع أن وقوع نوع من أنواع التشابه بين الإسلام والكفر لا يجوز أن يكون هو الأساس عند الحديث عما يناقض الإسلام؛ فقد يشبه بعض ما في دين الإسلام بعض ما في غيره من الأديان؛ كتلك الأديان التي تؤمن بوجود الله جل وعلا وأنه الخالق الرازق، وتصدق بوجود الملائكة، وتعترف بنبوة كثير من الأنبياء، وتوقن بالبعث بعد الموت، وهكذا.
بل الواجب التركيز على بيان المعتقد الذي تميز به المسلمون عن غيرهم من الكفار، والذي أوجب انقسام البشر إلى مؤمن وكافر؛ كنبوة محمد صلى الله عليه وسلم عند الحديث عن اليهود والنصارى، وختمه للنبوة عند الحديث عن القاديانية والبهائية، وتنزيه الله جل وعلا عن النقص وعن مماثلة خلقه عند الحديث عن مدعي الحلول والاتحاد... إلخ.
لذلك لا ينبغي عند الحديث عن تلك النظم السياسية المخالفة للإسلام أن يكون بطريقة الحديث المجمل عن الجمع والتوفيق بينها وبين الإسلام، بل لا بد من توضيح قضية الانقياد التام للشريعة في مجملها ومفصلها، ولا بد من إبراز قضايا الإسلام التي يتحاشى أدعياء تلك النحل الحديث عنها؛ لتتضح الأمور واضحة جلية؛ كمثل:
-         قضية العلاقة بين المسلم والكافر، تلك العلاقة التي اشتمل القرآن الكريم على مئات الآيات القرآنية التي تتحدث عن الله والرب، والإيمان والإسلام، والكفر ومشتقاته؛ ليكون هناك تمايز واضح بين الطرفين، وقيام الحكم في الإسلام على هذه الصورة الواضحة الجلية من التمايز، فلا يسوي الإسلام بين المسلم والكافر في ممارسة السياسة والحكم، ولا في المشورة، ولا في إنشاء دور العبادة، ولا في إظهار ممارسة شعائر العبادة، ولا في الدعوة للأديان، ولا في الحرب والقتال، بل ولا في السلام والتحية، ويضاف إلى ذلك الموقف من الجزية التي يدفعها أهل الكتاب عن يد وهم صاغرون، وتحريم اتخاذهم أخلاء وأوداء.
فارتباط نظام الحكم في الإسلام بقضية أن الإسلام هو الدين الحق وأن ما عداه هو الباطل أمر أوضح من أن يوضح، خلافا لكل النظم السياسية الأخرى التي تحاد هذه النظرة وتعاديها.
-         قضية العلاقة بين نظام الحكم في الإسلام وأفراد المجتمع؛ حيث يحدد الإسلام أطرًا تضبط السلوك الشخصي والجماعي، خلافًا لغيره من النظم التي وإن قبلت ببعض الضبط فلا تقبل بالضبط الكامل للإسلام، الذي يترتب عليه فرض الحجاب، وحذر المواد الثقافية التي تحوي مخالفات للإسلام، ومنع الأنشطة الترفيهية التي لا تتفق مع آدابه الكريمة، وازدراء الآلهة الجاهلية، ومنع تعظيمها، وتكسير الأوثان والأصنام، وضبط العادات الاجتماعية، وإقامة عقوبات الحدود الشرعية...إلخ.
-         قضية العلاقة بين الإسلام والوطن؛ حيث يبني الإسلام المجتمع المسلم على قيم مرتكزة على الإسلام، لا على الأصل، ولا على مكان النشأة، ولا على العرق، ولا على اللغة، ولا على اللون؛ فكانت للإسلام أحكامه الظاهرة في الولاء والبراء والهجرة والجهاد، خلافا لكل النظم السياسية الأخرى التي تقيم مجتمعها على أسس أخرى اقتصادية، أو قومية، أو وطنية شعوبية...إلخ
-         قضية اشترط الإسلام في تولي أمر المسلمين العام شروطا منها: الإسلام، والذكورة، والقرشية، والاجتهاد، وتلك الشروط محل رفض من النظم غير الإسلامية خاصة شرط القرشية وشرط الاجتهاد في الشريعة.

وهكذا فإن تفصيل الأحكام يُبين الحقيقة الواضحة للعلاقة بين الإسلام وتلك النظم الأخرى، ويكشف حقيقة التلبيس الذي يمارسه الكثيرون عند نشر مذاهبهم الباطلة.


كتبه: طلحة المُسَيَّر
مجلة "حُراس الشريعة" – العدد الأول
جمادى الأولى 1434هـ