30‏/04‏/2011

البيان الثامن للهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم وبارك على مَن لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فإنَّ الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح تتوجه إلى عموم الأمة المصرية بخصوص المتغيرات الأخيرة والخطيرة بالبيان التالي:

أولاً: تدين الهيئة جريمة القتل البشعة التي قام بها أشقياء في حق شقيقتهم وطفلها وزوجها بسبب إسلامها، وتؤكد أنَّ هذه الجريمة البشعة تُظهر هذه العصبية المقيتة والحقد الذي يملأ قلوب البعض ضد الإسلام.

ثانيًا: تستنكر الهيئة السكوت الرسمي للكنيسة المصرية عن إدانة تلك الجريمة النكراء، كما تدين الهيئة موقف منظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام الحرة تجاه إدانة هذه الجريمة الطائفية الخسيسة.

ثالثًا: تدعو الهيئة وسائل الإعلام أنْ تربأ بنفسها عن الازدواجية والتطرف اللذين صارا سمتًا لكثير مِن معالجاتها للأحداث، وأنْ تقوم بواجبها الديني والوطني في تناول قضايا المجتمع بتجرد وإنصاف.

رابعًا: تناشد الهيئة المجلس العسكري الحاكم بالتدخل لإحقاق الحق والضرب على أيدي المستهترين بحرمة النفوس المعصومة، وتنتظر موقفًا جادًّا تجاه تحرير المسلمات المأسورات في الأديرة، بما يمثل تحديًا صارخًا للأعراف الإنسانية والقوانين الدولية والشرائع الإلهية.

خامسًا: تدعو الهيئة القضاء المصري إلى الرجوع عن الحكم الصادر بخصوص حق الطالبات المنتقبات في تغطية وجوههن أثناء تأدية الاختبارات، وذلك لمصادمة هذا الحكم للدستور مِن جهة وللشريعة الإسلامية مِن جهة أخرى؛ إذ يتردد حكم النقاب في الإسلام بين الوجوب والمشروعية، ولا قائل بمنعه.

سادسًا: تدعو الهيئة الحكومات العربية والإسلامية وجميع المنظمات والهيئات الإنسانية كافة إلى مد أيدي العون للشعب السوري المنكوب بقيادته الطائفية والتي أذاقت الشعب السوري المسلم ألوانًا مِن التنكيل والبطش والقهر عبر عقود متتابعة.

والله تعالى نسأل أنْ يحفظ مصر آمنة مطمئنة وسائر بلاد المسلمين، إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.


رئيس الهيئة الشرعية
أ.د. نصر فريد واصل

نائب رئيس الهيئة
أ.د. على أحمد السالوس

الأمين العام
د. محمد يسري إبراهيم

التاريخ: يوم السبت 26/5/1432ﻫ - 30/4/2011م

28‏/04‏/2011

المقطوعات الثلاث.. أُذُن وقِربتان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فهل تذكر ـ أخي الكريم ـ قصة المواطن المصري "ذي الأذن المقطوعة" في "محافظة قنا"؟!
أظن قصة أذنه في إعلام ما بعد الثورة احتلت مكان "الضربة الجوية الأولى" في إعلام ما قبل الثورة.. !
وأظن أنه لولا الملامة؛ لسمعنا مَن ينادي باتخاذ هذه الذكرى مناحة كمناحة عاشوراء عند الشيعة!

لكن اسمح لي ـ أخي الكريم ـ أن أتشكك في كونك تعرف قصته.. لماذا؟!
لأن كثيرًا مِن الناس لم يعرفوا قصته، وإنما عرفوا قصة أذنه المقطوعة؛ لأن مَن ذكر القصة أراد أن يصوِّر صاحبها أنه ضحية العنف الطائفي، والتشدد الديني، والزحف السلفي.. إلى آخر هذه الأسطوانة المشروخة.. !
وأريد أن أؤكد ـ أولاً ـ أننا كنا أقسمنا بأغلظ الأيمان، وأمام كثير مِن وسائل الإعلام التي ارتدت ثوب الخصم، والجلاد، والحَكَم أننا لم نأمر ولم نرض، ولن نرض بقطع أذن أي مواطن مصري، ولو حتى بقطع ظفره بهذه الطريقة، وإننا ندعو لترك العقوبات إلى مَن يملك تطبيقها -"ذي السلطان"- على أن لا يَقطع هو الآخر أُذن أحد بدون وجه حق.
ولكن الأمر قد يختلف ـ تمامًا ـ لو أن مواطنًا بريئًا يجلس في بيته، فإذا بوحش كاسر -"لا سيما إذا كان هذا الوحش ذو لحية"- يقتحم عليه بيته ويروع أسرته، ويقيم عليه حد قطع الأذن -الذي يبدو مِن السياق أنه غير مبرر بالمرة-، وبيْن أن يقوم رجل مستهتر بالأخلاق العامة للمجتمع باصطحاب فتاتين مسجلتين آداب إلى شقته؛ فيغضب الأهالي مِن ذلك، ويقومون لا سيما مع غياب الشرطة بإقامة حفلة تأديب يشارك فيها شاب ذو لحية ضمن عشرين آخرين؛ ليتحول الأمر إلى مشاجرة تنتهي بقطع أذن ذلك الرجل.

مِن المعقول أن يخطئ الجميع هذا التصرف العفوي مِن هذه الجموع، لكن هل مِن المعقول أن يستقبله "شيخ الأزهر".. وكأن الجريمة لحقت المسلمين كافة؟!
وهل مِن المعقول أن تُلصق التهمة بكل الملتحين لمجرد مشاركة الشاب ذي اللحية في حفلة التأديب؟!
وإذا كان الإعلام قد صدَّق "صاحب الأذن" في أنه أجَّر الشقة إلى هاتين الفتاتين دون أن يعرف سمعتهما السيئة، وأنه عرف بعد أن "وقعت الفأس في الرأس".. وسمع أهل القرية بوجودهما وهموا بإخراجهما، وأن رأسه الذهبية قد أوحت له أن يبيت في الشقة تلك الليلة؛ ليحميهما مِن تلك الجموع الغاضبة مما جعله ينال العلقة نيابة عنهما، ويدفع أذنه (الشريفة) ثمنًا لفدائهما! فكيف يجمع البعض بيْن "سذاجة علي بابا" في تصديق هذه القصة، وبيْن "دهاء شيرلوك هولمز" الذي سوف يُوقِع بالسلفي الخفي الذي يقيم حد قطع الآذان؟!

لقد كان يمكن لقصة كهذه أن تخرج إلى الجمهور تحت عنوان: "أهالي غاضبون يعاقبون شقيًّا استجلب فتاتي ليل في غياب الشرطة"، ولكنها وبطريقة لا يمكن اعتبارها بريئة تحولت إلى: "سلفيون يقيمون حد قطع الأذن على مواطن قبطي"!

نكتفي بهذا القدر مِن قصة "الأذن المقطوعة" التي بكاها الجميع بكاء فلول الوطني لـ"مبارك"؛ لنفاجئ بقصة جديدة: أحد فلول الحزب الوطني -"وهذا في حد ذاته كافٍ في العرف الإعلامي الحالي؛ لكي يُقال فيه ما قاله مالك في الخمر"- أقام المحامي علاء رشدي، -وهو عضو الحزب الوطني وأحد المقربين من مايكل منير وقيادات قبطية مهجرية تحريضية- مطبًا صناعيًا مستفزًا أمام "قصره".. !
إذن اعتداء على سلطة الدولة.. واعتداء على حق المواطن العادي في الشارع.. وهذا التوقيت يؤكد أن هذه هي الثورة المضادة التي يحس بها الجميع ولا يراها.. ها هي قد بدت في الأفق.. لا سيما إذا عُرفت بقية فصول الجريمة!

غـَفَر الباشا -"درسنا في التاريخ أن ثورة 1952 ألغت الباشاوية، وها نحن بعد ثورة 2011 لا زلنا نعاني منها"- يتعدون بالضرب على ركاب سيارة ميكروباص تعطلت أمام قصر الباشا مِن جراء المطب الصناعي الذي وضعه "الباشا"، وشمل الأمر التعدي على سيدة وطفل، وتم تمزيق ثياب تلك السيدة -"أتساءل: أين هوانم مراكز حقوق المرأة اللاتي ارتدين السواد ونصبن مجلس النياحة على النساء اللاتي قيل: إن مجهولين هددوا بإلقاء ماء النار عليهن؟! وطالما أنهم مجهولون فهم سلفيون بالطبع! أين هم مِن تلك الواقعة المادية الملموسة المثبتة في محضر شرطة؟!"-.
ذهب الضحايا إلى الشرطة؛ لتحرير محضر، فجاءهم "مدير الأمن" وأقنعهم أن ينصرفوا.. -"أين "ساويرس" الذي رأى أن الشاب "ديمتري" الذي تصالح مع قاطعي أذنه العشرين بما فيهم الشاب ذي اللحية حتى لا تثبت عليه قانونًا تهمة إدارة شقة منافية للآداب فوصفه ساويرس داعي المحبة والسلام بأنه "هبل"؟، أين هو مِن هؤلاء الذين أجبرتهم "السلطات التنفيذية" بالرجوع صامتين منتظرين أمر الضبط والإحضار لصاحب القصر الذي يبدو أن حصانته فاقت صاحب قصر شرم الشيخ؟!"-.

ويبدو أن هذا الأمر لم يعجب "الباشا الذي أمر ميلشياته" بفتح النيران على المجني عليهم، ومُناصريهم مِن فوق أسطح المنازل؛ليسقط ثلاثة مِن القتلى وعشرة من الجرحى، وتشتعل ردود الفعل الغاضبة، ويأتي الجيش ويفرض حظر التجول..
وتخرج علينا الصحف على استحياء؛ لتتكلم عن مشاجرة بيْن عائلتين في "المنيا" في أخبار سريعة موجزة خاطفة، لم تعقبها ندوات ولا تحليلات، ولا اتهامات، ولا شيء مِن هذا.. !

فما السر يا ترى؟!
السر واضح.. "لأن الإعلام الموجه أمريكيًّا"؛ لا يُضخم الحدث إلا إن كان المتهم "ذا لحية"! وحبذا لو كان المجني عليه قبطيًّا؛ حيث تصبح العناوين مِن جنس: "السلفيون يقطعون آذان الأقباط"!
وأما إذا كانت الجريمة طرفاها اثنان مِن عامة المواطنين فمكانها صفحة الحوادث، وأما إذا كان الجاني نصرانيًّا والمجني عليه مسلمًا فمكانها ـ أيضًا ـ صفحة الحوادث، وحبذا لو كان بالـ"حبر السري" أيضًا، أو على الأقل بالبنط الصغير على أن تختفي مِن الصفحة الرئيسية بعد نصف ساعة على الأكثر بالنسبة للصحافة الإلكترونية!

وإذا كان الإعلام قد بكى وأبكانا على "أذن ديمتري" المقطوعة، فنرجو أن ينتبه الإعلام إلى مقطوعتين أُخرتين:
الأولى: قِربة مقطوعة وضعها الإعلام الموجه فوق رأس البلد رغمًا عنها، وهي: "قربة التدليل الطائفي".
والأخرى: تلك القِربة المقطوعة التي ننادي فيها منذ زمن بعيد، مِن الفرق الجوهري بيْن التعايش السلمي، وبيْن التدليل الطائفي؛ لأن الأخير مرادف ـ تمامًا ـ للفتنة الطائفية لمن يُدرك قواعد علم الاجتماع.

فهل نأمل ألا يتم الضغط على المجني عليهم؛ للتنازل عن حقهم؟ وهل نأمل أن ينال القصاص العادل هؤلاء القتلة؟
وهل نأمل أن يبادر "المجلس العسكري" بنزع سلاح جميع المواطنين إعمالاً للقانون؛ لا سيما هؤلاء الذين يمكن أن يستخدموه استخدامًا طائفيًا؟
وهل نأمل أن يبادر عقلاء النصارى فيأخذوا على أيدي سفهائهم؟ أم ننتظر بعد "الفوضى الخلاقة" مرحلة "الحرب الأهلية"؛ ليحصل للأعداء "نصر بلا حرب"؟!

أسئلة تبحث عن إجابة.. وليسمح لنا الإعلام الموجه أن نبكي "القربتين المقطوعتين" كلما بكوا هم "الأذن المقطوعة"!

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


كتبه: عبد المنعم الشحات
18-جماد أول-1432هـ   21-إبريل-2011    

25‏/04‏/2011

مفهوم الدولة في الإسلام وإشكاليات المفاهيم الغربية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسَلين وخاتَم النبيين،
وبعد،

احتدم النقاش حول الدولة الدينية والدولة المدنية، وفي بداية الأمر تم تقديم الدولة المدنية على أنها المقابِلة للدولة العسكرية، ثم تغيَّر الطرح فأصبحت الدولة المدنية هي المقابِلة للدولة الدينية، حيث أعرب الكثير مِن المنتمين للتيارات الليبرالية والعَلمانية عن دعوتهم إلى أنْ تكون الدولة مدنية لا مرجعية للدين فيها، فلا دخل للدين في السياسة بزعمهم.
وتم الترويج للدولة المدنية على أنها رمز للتحرر والتقدم والحداثة، أما الدولة الدينية فهي رمز للتسلط والطغيان والجمود، وكأنَّ البشرية لم تعرِف في تاريخها إلا هذين النموذجين، وغاب نموذج الدولة الإسلامية عن أي طرح. وفات أولئك أنْ يفتشوا في تاريخهم، وأنْ يرجِعوا إلى أُصولهم وهُويتهم، ونسوا أو تناسوا أنه لا سبيل للنجاة إلا بالاعتصام بكتاب الله وبسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.


·      اختلاط المفاهيم
بدا مِن الواضح أنه هناك خلطٌ بين بعض المفاهيم المتعلقة بالدولة لدى كثيرٌ مِن المسلمين، وذلك بسبب وقوعهم ((في تأثير بعض النظريات الغربية التي تُخالِف نصوص كتاب الله تعالى، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلَّم، أو تُخالِف أصلاً مِن أصول الدين أو على الأقل، متابعتها قَبْل التثبُت ومراجعة أصول الإسلام ومقرراته وأحكامه، فنجِد أنَّ بعض الكُتَّاب يُسَوِّق الرأي الغربي، أو النظرية وكأنها هي الأصل)) [الاتجاهات العَقلانية الحديثة – أ.د. ناصر العقل (ص435)].
فَعَلَت الأصوات المنَفِّرة مِن الدولة الدينية، المطالِبة بدولة مدنية وديموقراطية، دون الإلمام الكامل بمعاني هذه المصطلحات أو نشأتها. وتعددت التفسيرات والتأويلات لمصطلحات الدولة المدنية والديموقراطية والدولة الدينية، مما استلزم الرجوع لأصول تلك المفاهيم والمصطلحات لمعرفة المقصود الحقيقي منها، وماذا أراد بها مَن أطلقها، ثم الحُكم بعد ذلك بمدى موافقتها للشريعة الإسلامية، وبمدى حاجتنا إلى استخدامها، وهل لدينا ما يغنينا عنها أم لا.


·      جولة مع المصطلحات
الدولة المدنية: وهي التي يكون القائمين على الحُكم فيها لا يمثلون رجال الجيش ولا رجال الدين. فالحكومة المدنية هي ((المقابِلة للحكومة الدينية، أو حكومة الإله... وهي وسيلة الأُمة –بخلاف العسكر- لفرض القانون والنظام، وتُستخدَم للتفريق بين السلطة الدينية والسلطة اللادينية، أو السلطة العَلمانية)) [الحكومة المدنية: نشأتها، ومهمتها، ومصيرها - دافيد ليبسكوم].

الدولة الديموقراطية: حيث تكون ((السلطة العليا في الدولة، تحت سيطرة، ومِلكاً للشعب، حيث يمارس الشعب تلك السلطة بطريق مباشر، أو بطريق غير مباشر عبر نظام تمثيلي عادةً ما يتضمن انتخابات حرة)) [الموسوعة البريطانية (Democracy)].

الدولة الدينية: أما الدولة الدينية، فلا تجد مَن يتكلم عنها الآن إلا ويذكر نموذجين فقط؛ النموذج الأول: دولة الثيوقراط، والنموذج الثاني: دولة ولاية الفقيه.
-      أولاً: الدولة الثيوقراطية
وهي الدولة التي ((يُعتبَر فيها الإله هو الحاكم المدني الأعلى وتحكُم فيها السلطات الدينية ممثلةً له)) [قاموس الورلد بوك]. وكان هذا النموذج مِن الحُكم هو السائد في أوروبا في القرون الوسطى، حيث كانت ((الكنيسة مارداً جباراً وطاغوتاً جائراً يملك كل مقومات البقاء ولوازم الاستبداد، ويُريد أنْ يُسيطر على كل شيء ويُسَيِّر كل شيء وفق إرادته وهواه. ولم تدع الكنيسة جانباً مِن جوانب الحياة دون أنْ تمسكه بيدٍ مِن حديد وتغله بقيودها العاتية، فهيمنت على المجتمع مِن كل نواحيه الدينية والسياسية والاقتصادية والعلمية، وفرضت على عقول الناس وأقوالهم وتصرفاتهم وصاية لا نظير لها البتة. وإنَّ التاريخ ليفيض في الحديث عن طغيان الكنيسة ويُقَدِّم نماذج حية له في كلِ شأنٍ مِن الشؤون)) [العَلمانية: نشأتها وتطورها وأثرها في الحياة الإسلامية المعاصِرة – د. سفر الحوالي (ص127)]، هذا في الوقت الذي كانت فيه الدولة الإسلامية حاملةً لشُعلة الحضارة والتقدم في العالم. فـ((الأقطار التي لم يشملها نور الإسلام – لا سيما في أوروبا الهمجية – ظلت ترزخ تحت نير الطغاة، وظل الفرد الأوروبي عدة قرون يعبد الهين مِن البشر: الامبراطور والبابا. الأول يدَّعي أنَّ له الحق في حُكم الناس وفق مشيئته ويخضعهم لهواه، والثاني يُبارِك خطواته ويُلزِم الشعب بطاعته لأنَّ ذلك يأمر به الله وتمليه السماء)) [العَلمانية: نشأتها وتطورها وأثرها في الحياة الإسلامية المعاصِرة – د. سفر الحوالي (ص216)].
-      ثانياً: ولاية الفقيه
كما هو الحال في الدولة الصفوية بإيران، حيث ((يرى الشيعة الإثنى عشرية وجوب عصمة الإمام، بحيث يحصُل للمكَلَّفين القطع بأنه حُجَّة الله، وأنَّ قَوْلُه قَوْلَ الله تعالى وقَوْلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحُكمُه وجوب طاعته والتسليم له)) [مع الإثنى عشرية في الأصول والفروع – أ.د. علي السالوس (ج1/ص284)]. وفي زمن الغيبة، يكون رجال الدين هم وكلاء الإمام الغائب إلى أنْ يخرج مِن السرداب.
وكِلا النموذجيَْن يخالِف ويغاير مفهوم الدولة الإسلامية عند أهل السُّنَّة والجماعة.


·      مفهوم الدولة في الإسلام
الدولة الإسلامية تختلف في الهدف، والوظيفة، ومصدرية التشريع، والشمولية، عن غيرها مِن النماذج البشرية الوضعية التي شهدها التاريخ الإنساني.

وظيفة الدولة الإسلامية
الوظيفة الرئيسية للدولة الإسلامية هي إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين، ففي الإسلام ((وظيفة الدولة القيام على الدعوة الإسلامية، وإقامة الشريعة الإسلامية، وقيادة الأُمَّة وفق هذه الشريعة)) [نحو ثقافة إسلامية أصيلة – أ.د. عمر سليمان الأشقر (ص349)]

مصدرية التشريع في الدولة الإسلامية
تقوم الدولة في الإسلام على تشريع رباني المصدر، وبالتالي فهو تشريع معصوم لأنه مِن لدن العليم الخبير. فـ((إنَّ الدَّوْلة الإسلامية تجعل دستورها مُسْتَمَدَّاً مِن كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتستمِد منهما أُمهات الأخلاق وأساسيات العقائد، فهو قانونهم الأكبر الذي ترجع إليه كل القوانين الفرعية. إنَّ مِن أهداف مرحلة التمكين وضع نظام نابع مِن الإسلام ومصادر الشريعة، يتناول كل مناشط حياة الناس الفردية والعامة)) [فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم – د. علي الصلابي (ص440)].
والحُكم في الدولة الإسلامية نابع مِن شرع الله، فـ((إنَّ المُسْتَنَد القانوني للحُكم في الدولة الإسلامية هو الإسلام، فالقوانين التي تحكُم في الدولة الإسلامية هي مِن عند الله، وإطاعتها على ذلك واجبٌ لا بُدَّ منه، والإنسان تطمئن نفسه إلى طاعة ربه وخالقه، بقدر ما تنفر مِن طاعة قوانين بشر مثله)) [نحو ثقافة إسلامية أصيلة – أ.د. عمر سليمان الأشقر (ص347)].

الدولة الإسلامية لا تفصل بين الدين والسياسة
وهذا يختلف عما يدعو إليه العَلمانيون مِن الفصل بين الدين والدولة، وبخلاف الدولة  المدنية التي لا دخل لحُكم الدين في شؤونها، ((فالله شَرع الأحكام التي تُنظم المجتمع الإسلامي، وطالَب المسلمين بتنفيذ هذه الأحكام، ومعاقبة المتمردين على تلك الأحكام، بإقامة الحُدود والقَصاص مِن المعتدين، وكل ذلك يحتاج إلى سلطة سياسية)) [نحو ثقافة إسلامية أصيلة – أ.د. عمر سليمان الأشقر (ص343)]، وتلك السلطة السياسية هي الدولة الإسلامية.
والشريعة الإسلامية حددت ملامح الحُكم في الدولة، فـ((إنَّ الدستور الإسلامي للدولة الصالحة يشتمل على قواعد ونُظُم تقوم بتوضيح نظام الحُكم، وتنظيم السلطات العامة وارتباط بعضها ببعض، وتحديد كل سُلطة مِن السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية، بكل دقة ووضوح، وتوضيح حقوق الأفراد على الدولة وواجباتهم نحوها، والحقوق بكل تفصيلاتها معنوية ومادية، وكذلك الواجبات والالتزامات، ووضع القوانين المفَصِّلة للدستور)) [فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم – د. علي الصلابي (ص443)].
والدولة في الإسلام مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة، فـ((إنَّ أجيال المسلمين في الماضي البعيد والحاضر القريب، توقِن إيقاناً راسخاً بأنَّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين دولة الإسلام وعقيدة الإسلام، فقُوَّة الدولة رفعة للعقيدة وحماية للعقيدة. ومما يدُل على عُمق الشعور بالارتباط بين الدولة والعقيدة لدى جماهير المسلمين خلال التاريخ الإسلامي أنه – وكما هو موجود بكثرة في كُتُب الحديث والسِيَر والتاريخ – كان علماء المسلمين وقُوَّاد جيوشهم وأفاضل كل عصر، إذا بايعوا الخليفة (منذ عهد أبي بكر فمَن بعده) يبايعونه على كتاب الله وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربطوا البيعة بالكتاب والسنة لتظل الدولة قائمةٌ عليهما، ولتستمد بقاءها ومبرر وجودها مِن الحفاظ عليهما)) [فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم – د. علي الصلابي (ص436)].


·      هل هناك فَرْق بين الدولة الإسلامية والدولة الدينية الثيوقراطية؟
يختلف مفهوم الدولة في الإسلام عن مفهوم الدولة الدينية الثيوقراطية التي عرفها الغرب في عصور الظلام. وأوجه الخلاف نذكر منها:
نظام الحُكم
في الدولة الدينية الثيوقراطية، نظام الحُكم ديكتاتوري، ((والحُكم الإسلامي بريء مِن الديكتاتورية التي تجعل الحاكِم إلهاً لا يُسأَل عما يفعل وتجعل قولَه القَوْل وحُكمَه الحُكم، الحاكم في الإسلام مُقَيَّد بالشرع محاسَب على أفعاله عند المسلمين)) [نحو ثقافة إسلامية أصيلة – أ.د. عمر سليمان الأشقر (ص345)].

الحاكِم
الحاكم في الدولة الإسلامية مثله مثل المحكومين في الخضوع لحُكم الشرع، والمحكومون لهم الحق في محاسبة الحاكم إنْ خالف الشرع أو إنْ قَصَّر في أداء الدَّوْر المنوط به. أما في الغرب، ((كان الملوك يستعبدون الناس لأنفسهم زاعمين أنَّ لهم سلالة عرقية خاصة أسمى مِن العنصر البشري المشترك، وغلا بعض الطواغيت وادعى أنه إله أو مِن نسل الآلهة كما فعل أباطرة الروم، ولم يكن ليدور في خلد أي منهم أنَّ للأُمَّة عليه واجبات وحقوقاً، وأنَّ الكرسي والمنصب تكليف لا تشريف، بل كانوا يرَوْن أنَّ ما تقدمه لهم الأُمَّم مِن مراسم الخدمة والولاء والخضوع المذِل والتضحية بالنفس والنفيس لأجلهم ليس إلا واجباً مقدساً يقومون به تجاه العرش المحروس. جاء الإسلام فنسف هذه الفكرة مِن أساسها ورَدَّ العبودية كلها لله وحده، وفرض على الحُكَّام تبعات ومسؤوليات تُناسِب مركزهم في الأُمَّة، فرأى الناس في معظم أنحاء المعمورة الولاة المسلمين يرعون مصالحهم وينهضون بأعباء المسؤولية كاملةً في الوقت الذي لا يتميزون فيه عن الأُمَّة بفارق كبير)) [العلمانية: نشأتها وتطورها وأثرها في الحياة الإسلامية المعاصِرة – د. سفر الحوالي (ص216)].

مصدرية التشريع
سبق أنْ بينَّا أنَّ مصدرية التشريع في الدولة الإسلامية هي شرع الله. أما ((الدول الأخرى في القديم والحديث تقوم على تأليه غير الله، أو على الكفر بالله، والذين يحكمون في هذه الدول على اختلاف نزعاتهم ومشاربهم هم الذين يضعون القوانين التي تحكم البشر، لا فرق في ذلك بين الدِّوَل الديموقراطية أو الشيوعية أو الديكتاتورية، وهذا في اصطلاح القرآن شِرك، لأنَّ الله وحده هو الذي مِن حقه أنْ يُشَرِّع لعباده، وقد ذمَّ اللهُ اليهودَ والنصارى باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً مِن دون الله، ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [سورة التَّوْبة – الآية 31]، واتخاذهم إياهم كذلك سببه متابعتهم في التشريع المخالف لشرع الله. الحكام في الدولة الإسلامية كالأفراد، كلهم يطيعون أمر الله ويُنَفِّذون حُكمه، ولا يجوز لهم الخروج عن شرع الله)) [نحو ثقافة إسلامية أصيلة – أ.د. عمر سليمان الأشقر (ص347-348)].

وختاماً، يتبين مما تقدم أنه لا حاجة للمسلمين إلى تبني مصطلحات الدولة المدنية والدولة الدينية والدولة الديموقراطية، وأنَّ في الدولة الإسلامية كل ما تصبو إليه وتبحث عنه البشرية التائهة.
نسأل الله تعالى أنْ ترجع أُمَّة الإسلام إلى دينها، وكتاب ربها وسُنَّة نبيها صلى الله عليه وسلم، فهذا هو السبيل الوحيد لاستعادة عزتها ومكانتها بين الأمم.

والله المستعان.
وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
والحمد لله رب العالمين.

كتبه: أبو إسماعيل حاتم الحاجري
عفا الله عنه
الإثنين 22 جمادى الآخر 1432هـ / 25 إبريل 2011

22‏/04‏/2011

حول حظر النقاب في فرنسا

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد،
فمَنْع رئيس الوزراء الفرنسي للنقاب هو في حقيقته عداءٌ عقائدي، وإلا فهذه دولة حريات -كما يدَّعون-، ويسمحون هناك -كما شاهدتُ أنا- بالعربدة والعري والخلاعة.
فهم يسمحون بالعري والخلاعة، ويمنعون النقاب، وهذا تناقض حتى النخاع، ولذلك اعترضت عليهم دول من جملتها أمريكا، وإن كانت تقدر معاني الصداقة، وأنَّ فرنسا أعظم حليف لأمريكا، واعترض أيضاً أردوغان في تركيا.

- وهذه إحدى القضايا التي قد نهملها في موجة الانشغال بالسياسة والأحزاب والأحداث الجارية، فننسى أو ننشغل عن معاني الإيمان، والطاعات التي تُقرب إلى الله -تعالى- مِن الذكر  وتلاوة القرآن، التي يشعر فيها المؤمن بحلاوة الإيمان، ولذة المناجاة (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مَائَةَ مَرَّةٍ، حَطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ) [متفق عليه]، وقال عليه الصلاة والسلام: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) [رواه مسلم]، ونِعم الزاد كتابُ الله.
فنترك معاني الإيمان، ونخوض في الكلام عن أمور تؤخر ولا تُقدِّم. والمؤمن يتدبر ما يجري مِن أحداث فيرى فيها آيات بينات في عاقبة الظالمين، وإذلال المتكبرين، ومحاكمة الذين كانوا بالأمس حاكمين.

- وهذه الدول التي تدَّعي الحرية، قد لا يستطيعون أنْ يَسُبُّوا الحاكم، ولا أنْ يَسُبُّوا اليهود، وإلا وقعوا تحت طائلة قانون معاداة السامية، وهم هم الذين قد يَسُبُّون الدين، ويقولون حرية شخصية.

- وبعض المغفلين الذين لا يفهمون ديناً ولا دنيا، يقولون: إنَّ هذه شعوب عندها حريات!!
أي حريات هذه؟! وهم لا يستطيعون أنْ يَسُبُّوا الملكة أو الرئيس، خوفاً مِن القانون، فهل يُنتقص مِن شخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بزعم الحرية؟!
أي حرية هذه؟! إنْ كنت لا تفهم ديناً، فافهم الدنيا مِن حَوْلك كيف تسير!

- البعض يريد أنْ يفلسف القضية، فيقول: إنَّ في السعودية يفرضون النقاب، وفرنسا تفرض حظر النقاب، وهذه دول قمع، وفرنسا مثل السعودية!
لا يجوز التسوية بين المُحِق والمُبْطِل (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [القلم:35،36]، وفارق بين مَن يفرض التبرج ومَن يفرض الحجاب، صحيح أنَّ كليهما يُفرض، ولكن هذا يفرض حجاباً يأمر به رب العزة جل وعلا، والحُكم موضوع لإقامة الدين وسياسة الدنيا به، وبين مَن يفرض الخلاعة والتبرج والاختلاط، فالفرق بينهما كما بين السماء والأرض.

- ولابد من التوضيح والبيان على جميع المستويات، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية والأوقاف والأزهر، ولابد مِن مناصرة المعاني الشرعية والشعائر الدينية، والمناصرة لها شأن وقيمة ووقع، لأنَّ هذه دول فاجرة لا تخاف إلا على مصالحها الدنيوية. والقضايا الإسلامية لا يصح إهمالها ولا الغفلة عنها.

وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

كتبه: سعيد عبدالعظيم
20/04/2011

19‏/04‏/2011

البيان السابع للهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد فتتقدم الهيئة الشرعية إلى الأمة المصرية بالبيان التالي:

أولاً: تحيي الهيئة القرارات الرشيدة بإحالة رموز النظام السابق إلى القضاء المصري، وتطالب بإقامة العدل دون حيف أو خوف، وسرعة البت والفصل في قضايا الفساد، واتخاذ الإجراءات الحاسمة والرادعة لكل من تسوّل له نفسه الاعتداء على الأنفس والحقوق والحريات والمال العام.

ثانيًا: تؤكد الهيئة الشرعية على أهمية تماسك الجبهة الداخلية، وتحذر من محاولات النيل من أمن واستقرار البلاد، وتعتبر أن العبث بالأوضاع الداخلية هو خط أحمر لا يجوز لأحد أن يتجرأ عليه بحال.

ثالثًا: تدعو الهيئة الشرعية المجلس العسكري للتصدي بكل حزم لمحاولات تفكيك وتفتيت الوحدة الداخلية، وتنبه إلى خطورة محاولات الفتنة بين الشعب والجيش.

رابعًا: تحذّر الهيئة الشرعية من محاولات الالتفاف على إرادة الشعب التي عبرّ عنها من خلال الاستفتاء والتي على أساسها صدر البيان الدستوري، وعليه فإن الهيئة الشرعية ترفض محاولة إعادة كتابة الدستور إلا بعد تشكيل مجلس الشعب والشورى بالانتخاب النزيه.

خامسًا: تدعو الهيئة الجهات الدينية والإعلامية والأمنية والسياسية كافة إلى التصدي لمحاولات نشر الفتن بين فئات الشعب، كما ترفض محاولات التشويه المستمرة للتيارات الإسلامية الصادقة، عن طريق إثارة الشائعات الكاذبة.

سادسًا: على قوى الشعب المصري الأصيل المرابطة على حماية مكتسبات ثورتهم، والإصرار على بلوغ غايتهم، والحذر من أصحاب المصالح الشخصية أو الفئوية أو المتسلقين على إنجازات الثورة المباركة.

سابعًا: انطلاقًا من قول الله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11) تؤكد الهيئة أن ميدان التغيير الحقيقي هو إصلاح القلوب والأنفس وفق كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وتعظيم شعائر الدين ومكارم الأخلاق، والسعي لتنمية الإيمان وبناء الإنسان.

وفَّق الله أمتنا لخير ما يحب ويرضى، وهدى قادتها للبر والتقوى، ووقاها أسباب الفتن والردى إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين

والحمد لله رب العالمين

  
التاريخ:الخميس10/5/1432ﻫ - 14/4/2011م

رئيس الهيئة: أ.د. نصر فريد واصل
نائب الرئيس: أ.د. علي أحمد السالوس

الأمين العام: د. محمد يسري إبراهيم

15‏/04‏/2011

في وُجوبِ صلاةِ الجماعةِ وفَضْلِها

شعيرة عظيمة مِن شعائر الإسلام، وهي صلاةُ الجماعةِ في المساجد؛ فَقَدْ اتَّفَقَ المسلمون على أنَّ أداء الصَّلواتِ الخَمْسِ في المساجِدِ مِن أَوْكَدِ الطَّاعاتِ وأعظمِ القُرُباتِ، بَلْ وأعظمِ وأشهرِ شعائرِ الإسلامِ.
فَقَدْ شَرَعَ اللهُ لهذِهِ الأُمَّةِ الاجتماعَ في أوقاتٍ معلومةٍ، منها ما هُوَ في اليَوْمِ والليلةِ، كالصلواتِ الخَمْسِ، فإنَّ المسلمين يجتمعون لأدائِها في المساجدِ كلَّ يَوْمٍ وليلةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ.
ومِن هذه الاجتماعاتِ ما هُوَ في الأسبوع مَرَّة، كالاجتماع لصلاةِ الجُمُعةِ، وهُوَ اجتماعٌ أكبرُ مِن الاجتماعِ للصلواتِ الخَمْسِ؛ ومِنها اجتماعٌ يتكررُ كلَّ سَنَةٍ مَرَتَيْنِ، وهُوَ الاجتماعُ لصلاةِ العِيدَيْنِ، وهُوَ أكبرُ مِن الاجتماع لصلاةِ الجُمُعَةِ، بِحَيْثُ يُشْرَعُ فيه اجتماعُ أهل البَلَدِ؛ ومِنها اجتماعٌ مَرَةً واحدةً في السَّنَةِ، وهُوَ الاجتماع في الوُقوفِ بِعَرَفَة، وهُوَ أكبرُ مِن اجتماعِ العيدَيْنِ، لأنَّه يُشْرَعُ للمسلمين عموماً في كُلِّ أقطار الأرضِ.
وإنما شُرِعَتْ هذه الاجتماعاتُ العظيمةُ في الإسلامِ لأَجْلِ مصالحِ المسلمين، ليَحْصُل التواصُل بينهم بالإحسانِ والعَطْفِ والرعاية، ولأَجْلِ التَّوادُدِ والتَّحابُبِ بَيْنَهُم في القُلُوبِ، ولأجلِ أنْ يَعْرِفَ بعضُهُم أحوالَ بعض، فيقومون بعيادةِ المَرْضَى، وتشييعِ المُتَوَفَّى، وإغاثةِ الملهوفين، ولأجل إظهار قُوَّةِ المسلمين وتعارُفِهم وتلاحُمِهم، فيُغيظون بذلك أعداءَهُم مِن الكُفَّارِ والمنافقين، ولأَجْلِ إزالةِ ما ينسجُه بَيْنَهُم شياطينُ الجِنِّ والإِنْسِ مِن العداوةِ والتقاطُعِ والأحقادِ، فَيَحْصُلُ الائتلافُ واجتماعُ القُلوبِ على البرِ والتقوى، ولهذا قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: ((لا تَخْتَلِفوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكم)) [رواه مسلم (ح432)].
ومِن فوائد صلاةِ الجماعةِ؛ تعليمُ الجاهلِ، ومُضاعَفةُ الأَجْرِ، والنشاط على العَمَل الصالِحِ عندما يُشاهِدُ المسلِمُ إخوانَه المسلمين يُزاوِلون الأعمالَ الصَّالِحةَ، فيَقْتدي بهم.
وفي الحديث المُتَّفَقِ عليه، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: ((صلاةُ الجماعةِ تَفْضُلُ على صلاةِ الفَذِّ بِسَبْعٍ وعِشرين دَرَجة))، وفي رواية: ((بِخَمْسٍ وعِشرين دَرَجة)) [البخاري (ح645)، ومسلم (ح650)، والرواية عند البخاري (ح646)].

فصلاةُ الجَماعةِ فَرْضٌ على الرجُلِ في الحَضَرِ والسَّفَرِ، وفي حالِ الأمانِ وحالِ الخَوْفِ، وُجُوباً عَيْنِيَّاً، والدليلُ على ذلك الكتابُ والسُّنَّةُ وعَمَلُ المُسلمين قَرْناً بَعْدَ قَرْنٍ، خَلَفَاً عن سَلَفٍ.
ومِن أَجْلِ ذلك؛ عُمِّرَتِ المساجِدُ، ورُتِّبَ لها الأئمةُ والمُؤذِّنون، وشُرِعَ النداءُ لها بأعلى صَوْتٍ: ((حَيَّ على الصلاةِ، حَيَّ على الفلاحِ)).
وقال اللهُ تعالى في حالِ الخَوْفِ: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ [سورة النِّساء – الآية 102]، فَدَلَّتْ هذه الآيةُ الكريمةُ على تَأَكُّدِ وُجُوبِ صلاةِ الجماعةِ، حَيْثُ لم يُرَخَّصْ للمسلمين في تَركِها حالَ الخَوْفِ، فلو كانت غَيْر واجِبةٍ لكانَ أَوْلى الأعذارِ بِسُقُوطِها عُذْرَ الخَوْفِ، فإنَّ الجماعةَ في صلاةِ الخَوْفِ يُتْرَكُ لها أَكْثَرُ واجِباتِ الصلاةِ، فلولا تأَكُّدِ وُجُوبِها لم يُتْرَكْ مِِن أَجْلِها تلك الواجباتُ الكثيرة، فقد اغْتُفِرَتْ في صلاة الخَوْفِ أفعالٌ كثيرةٌ مِن أَجْلِها.
وفي الحديث المُتَّفَقِ عليه، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، أنه قال: ((أَثْقَلُ الصَّلاةِ على المنافقينَ صلاةُ العشاءِ وصلاةُ الفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُون ما فيهما لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوَاً، ولَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آَمُرَ بالصَّلاة فَتُقَامَ ثُمَّ آَمُرَ رَجُلاً يُصَلِّي بالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقُ مَعي بِرِجَالٍ معهم حُزَمٌ مِن حَطَبٍ إلى قَوْمٍ لا يَشْهَدُون الصَّلاةَ فَأَحْرِقَ عليهم بُيُوتَهُم بالنَّارِ)) [البخاري (ح657)، ومسلم (ح651)].
ووجهُ الاستدلالِ مِن الحَديثِ على وُجوبِ صلاةِ الجماعةِ مِن ناحِيَتَيْن:
الناحية الأولى: أنه وَصَفَ المتخلِّفِين عنها بالنفاقِ، والمتخلِّفُ عن السُّنَّةِ لا يُعَدُّ منافِقاً؛ فَدَلَّ على أنهم تخلَّفوا عن واجِب.
والناحية الثانية: أنه صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم هَمَّ بعُقوبَتِهم على التخلف عنها، والعقوبةُ إنما تكونُ على تَرْكِ واجِبٍ، وإنما مَنَعَهُ صلَّى اللهُ عليه وسلم مِن تنفيذ هذه العقوبة مَن في البيوتِ مِن النساءِ والذَّراري الذين لا تَجِبُ عليهم الجماعة.
وفي صحيح مسلم أنَّ رجلاً أعمى قال: (("يا رَسُولَ اللهِ! إِنَّهُ لَيْسَ لي قَائِدٌ يَقُودُني إلى المَسْجِدِ"؛ فَسَأَلَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أَنْ يُرَخِصَ لهُ أَنْ يُصَلِّي في بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ له. فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فقال: "هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بالصَّلاةِ؟" فَقَالَ: "نَعَمْ". قال: فَأَجِبْ)) [ؤواه مسلم (653)]. فأَمَرَه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم بالحُضورِ إلى المسجِدِ لصلاة الجماعةِ وإجابةِ النِّدَاءِ مع ما يُلاقيه مِن المشقةِ، فَدَلَّ ذلك على وُجوبِ صلاةِ الجماعةِ.

وقد كان وُجُوبُ صلاةِ الجماعةِ مُسْتَقِرَّاً عند المؤمنينَ مِن صّدْرِ هذه الأُمَّةِ.
قالَ ابنُ مسعودٍ رضيَ الله عنه: ((لَقَدْ رَأَيْتُنا وما يَتَخَلَّف عنها إلا مُنافِق معلومُ النِّفاقِ، ولَقَدْ كان الرجُلُ يؤتى به يُهادَى بَيْنَ الرجُلَيْنِ حتى يُقامَ في الصَّفِّ)) [رواه مسلم (ح654)].
فَدَلَّ ذلك على استقرارِ وجوبِها عِند صحابةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، ولم يعلموا ذلك إلا مِن جهة النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، ومعلومٌ أنَّ كُلَّ أَمْرٍ لا يَتَخَلَّفُ عنه إلا منافِقٌ يكونُ واجِباً على الأعيان.
وروى الإمامُ أحمدُ وغَيْرُه مرفوعاً: ((الجفاءُ كُلُّ الجفاءِ والكُفْرُ والنفاقُ مَن سَمِعَ مُنادِيَ اللهِ يُنادي بالصلاةِ يدعو إلى الفلاحِ ولا يُجيبُه)) [رواه أحمد (3/439)، والطبراني (20/394)].
وثبتَ حديثٌ بذلك: ((يدُ اللهِ على الجماعةِ، فَمَن شَذَّ شَذَّ في النارِ)) [رواه الحاكِم (1/199، 200، 201)، واللالكائي (154)، وابن أبي عاصم في "السُّنة" (80)].
وسُئِلَ ابنُ عباسٍ عن رجلٍ يقومُ الليلَ ويصومُ النهارَ ولا يحْضُرُ الجماعةَ، فقال: ((هو في النَّارِ)) [رواه الترمذي (218)].

نسألُ اللهَ العافيةَ والتوفيق لمعرفةِ الحقِّ واتَّباعِه، إنه سميعٌ مُجيبٌ.


كتبه: فضيلة الشيخ صالِح بن فَوْزان بن عبد الله الفَوْزان
مِن كتاب: المُلَخَّص الفِقهي

12‏/04‏/2011

بيان من "الدعوة السلفية" بشأن تطور الأحداث بجمعة التطهير

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتستنكر "الدعوة السلفية" محاولة "بعض الفئات" فرض واقع على الأرض، ومحاولة قفزها فوق إرادة الشعب المصري، وإرادة السواد الأعظم مِن شباب الثورة.
حيث دعا هؤلاء إلى مظاهرة سلمية مليونية للمطالبة بجملة مِن المطالب المشروعة، كان مِن أهمها الإسراع في محاكمة رموز الفساد الذين أجرموا في حق الشعب قبل وأثناء الثورة، واستعادة الحقوق المنهوبة للشعب.
واستجابت الأطياف المكوِّنة للثورة "وبخاصة الإسلاميين" لهذه النداءات؛ رافضين المطالبة بتنحي المجلس العسكري وإنشاء مجلس رئاسي غير منتخب، وأنْ تتحول المظاهرة إلى اعتصام؛ حتى لا تضر بمصالح الوطن.

وعلى العكس مما أُعلِن.. دعا البعض إلى تحول المظاهرة إلى اعتصام.. حتى اعتدوا على الشيخ "صفوت حجازي"؛ لمنعه مِن الانصراف تطبيقًا لما أُعْلِن مِن أنها مظاهرة، وليست اعتصامًا!
بل وتواردت أنباء عن شهود عيان بوقوع اعتداءات مِن بعض المعتصمين على المارة، وأفرادٍ مِن الشرطة والجيش.

ونظرًا لخطورة هذا الوضع على أمن البلاد، واحتمال تطوره إلى الفوضى، بل الخراب، بل وُجدت كثير مِن الشواهد التي تشير إلى مؤامرة تستهدف استقرار مصر ومستقبلها، ولا يُستبعد أنْ يكون وراءها أطراف خارجية، ومِن ثمَّ: فإنَّ "الدعوة السلفية" تدعو الجميع إلى فض الاعتصام فورًا، وعدم المشاركة في استمراره.
وألا تتم الدعوة إلى تجمعات مِن هذا القبيل إلا بعد تشاور مجتمعي كبير، مع استمرار الجهود لملاحقة رموز الفساد.

ونحذر مِن أي محاولة تحت أي مسمى للانقلاب على إرادة الأمة التي أظهرها الاستفتاء على التعديلات الدستورية، الذي كانت الموافقة الكاسحة عليه تعني الموافقة على استمرار المجلس العسكري في قيادة البلاد، حتى يتم تكوين مؤسساتها المنتخَبة.

ونؤكد على أنَّ أصحاب الصوت العالي لا يعكسون الإرادة الشعبية الكاسحة، بل يتحدونها بحكم امتلاكهم للآلة الإعلامية، ونطالِب أصحاب مثل هذه التصرفات غير المسئولة أنْ يدركوا حجم المخاطر التي تحيط بمصر.

حفظ الله مصر مِن كل شر وسوء.

الدعوة السلفية بالإسكندرية

وافق أيضًا على هذا البيان كل مِن أصحاب الفضيلة:
الشيخ محمد عبد المقصود
الشيخ حسن أبو الأشبال
الشيخ فوزي السعيد
الشيخ ممدوح جابر

6-جماد أول-1432هـ  / 9-إبريل-2011