29‏/08‏/2010

في ليلة القدر

في ليلة القدر تنتشِرُ الملائكة في الأرض، فيبطُلُ سُلطانُ الشياطين، كما قال الله تعالى: ﴿تَنَـزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [سورة القدر – الآيات 4، 5].
وفي المسند عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الملائكةُ تلك الليلة في الأرض أكثر مِن عدد الحصى))، أخرجه أحمد (2/519)، وابن خُزَيْمة (2194)، وحَسَّن الألباني إسناده وراجع الصحيحة (2205).
وفي صحيح ابن حِبَّان، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يخرُج شيطانها حتى يخرج فجرُها))، أخرجه ابن حبان (3688).
وفي المسند مِن حديث عُبادة بن الصامِت، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ليلة القدر: ((لا يَحِلُ لكوكبٍ أن يُرمى به حتى يُصْبِحَ، وأن أماراتَها أنَّ الشمسَ تخرُجُ صبيحَتَها مُسْتَويةً ليس لها شُعاعٌ مثل القَمَرِِ ليلةَ البدرِ، لا يحِلُ للشيطان أن يخرُجَ معها يومئذٍ))، أخرجه أحمد (5/324).

ورُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((إنَّ الشيطان يطلُعُ مع الشمسِ كُلَّ يوْمٍ إلا ليلةَ القدرِ، وذلك أنها تطلُعُ لا شعاعَ لها)).
وقال مجاهدٌ في قوله تعالى: ﴿ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [سورة القدر – الآية 5]، قال: ((سلام أن يحدُثَ فيها داءٌ أو يستطيعَ شيطانٌ العَمَل فيها)). وعنه قال: ((ليلةُ القدْرِ ليلة سالِمةٌ لا يحدُث فيها داءٌ، ولا يُرْسَلُ فيها شيطان)). وعنه قال: ((هي سالمةٌ لا يستطيعُ الشيطانُ أن يعمل فيها سوءاً، ولا يُحدِثَ فيها أذى)).
وعن الضَّحاك، عن ابن عباس قال: ((في تلك الليلة تُصَفَّدُ مردةُ الجِنِّ، وتُغَلُّ عفاريتُ الجِنِّ، وتُفْتَحُ فيها أبوابُ السَّماءِ كلُّها، ويَقْبَلُ الله فيها التوبةَ لكلِّ تائبٍ، فلذلك قال: ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [سورة القدر – الآية 5])).
ويُروى عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: ((لا يستطيعُ الشيطانُ أن يُصيبَ فيها أحدٍ بخبلٍ أو داءٍ أو ضربٍ مِن ضُرُوبِ الفسادِ، ولا ينفُذُ فيها سِحرُ ساحِر)).
ويُروى بإسنادٍ ضعيفٍ عن أنسٍ مرفوعاً: ((أنه لا تسري نجومُها، ولا تنبح كلابهُا)).

وكل هذا يدُلُّ على كفِّ الشياطين فيها عن انتشارِهم في الأرض، ومنعهِم من استراق السمع فيها مِن السماء.


كتبه: أحمد بن رجب الحنبلي رحمه الله، المتَوَفَّى سنة 795 هـ
مِن كتاب: لطائف المعارف فيما لمواسم العام مِن الوظائف.

20‏/08‏/2010

في بدء صيام اليوم ونهايته

قال الله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [سورة البقرة – الآية 187].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((هذه رخصةٌ مِن الله تعالى للمُسلمين، ورَفْعٌ لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدُهُم إنما يَحِلُّ له الأكل والشُّرب والجِماع إلى صلاةِ العِشاءِ أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العِشاء حُرِّمَ عليه الطعامُ والشَّرابُ والجِماع إلى الليلة القابِلة، فوجدوا مِن ذلك مشقة كبيرة، فنزلت هذه الآية، ففرِحوا بها فَرَحاً شديداً، حيث أباح الله الأكل والشُّرب والجِماع في أي الليل شاء الصائِمُ، إلا أن يتَبَيَّنَ ضياءُ الصباحِ مِن سَوادِ الليل)) "تفسير ابن كثير: ج1/ص221-ط الفكر.
فَتَبَيَّن مِن الآيةِ الكريمة تحديدُ الصوْمِ اليوميِّ بدايةً ونهايةً، فبدايتُه مِن طلوعِ الفجْرِ الثاني، ونهايته إلى غُروبِ الشَّمس.

وفي إباحته تعالى الأكلَ والشُّربَ إلى طلوع الفجر دليلٌ على استحبابِ السُّحورِ.
وفي الصحيحين عن أنسٍ؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تَسَحَّرُوا فإن في السَّحورِ بَرَكَةً)) رواه البخاري (ح1923) ومسلم (1095).
وقد وَرَدَ في الترغيبِ بالسُّحور آثاراً كثيرةٌ، ولو بجرعةِ ماءٍ، ويُسْتَحَبُّ تأخيرُه إلى وقتِ انفجار الفجرِ.
ولو استيقظ الإنسانُ وعليه جنابةٌ أو طَهُرَتِ الحائضُ قبلَ طلوعِ الفَجْر؛ فإنهم يبدؤون بالسَّحورِ، ويَصومون ويُؤَخِّرُون الاغتسالَ إلى ما بعدَ طُلوعِ الفجر.

وبعضُ الناس يُبَكِّرون بالتَّسَحُرِ لأنهم يَسْهَرونَ مُعْظَمَ الليلِ ثُم يتسحرَّون وينامون قبلَ الفجرِ بساعاتٍ، وهؤلاء قد ارتكبوا عِدَّةَ أخطاء:
أولاً: لأنهم صاموا قبلَ وقت الصِّيام.
ثانياً: يَترُكون صلاةَ الفَجْرِ مع الجَماعةِ، فيعْصون الله بِتَرْكِ ما أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهم مِن صلاةِ الجماعةِ.
ثالثاً: رُبَّما يؤخِّرون صلاة الفَجْرِ عن وقتها، فلا يُصَلُّونها إلا بعدَ طُلوعِ الشمسِ، وهذا أشدُّ جُرْماً وأعظمُ إثماً، قال الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [سورة الماعون – الآيات 4،5].

ولا بُد أن ينويَ الصيام الواجِب مِن الليل، فلو نوى الصيام ولم يستيقِظ إلا بعدَ طُلوعِ الفَجْرِ فإنه يُمْسِكُ، وصيامُه صحيحٌ تامٌ إن شاء الله.

ويُسْتَحَبُّ تعجيلُ الإفطارِ إذا تَحَقَّقَ غروبُ الشَّمسِ بمُشاهدتها أو غَلَبَ على ظنِّهِ بخبرِ ثِقَةٍ بأذان أو غيرِه: فعن سهل بن سعد رضي الله عنه؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ ما عَجَّلوا الفِطْر)) مُتَّفَقٌ عليه، رواه البخاري (ح1957) ومسلم (ح1098). وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رَبِّه عز وجل: ((إِنَّ أَحَبَّ عِباديَ إلَيَّ أَعْجَلُهُم فِطْراً)) رواه أحمد (2/237، 329)، والترمذي (70، 701) وقال: حسنٌ غريب، وابن حِبَّان (3507، 3508).

والسُّنَّة أن يُفْطِرَ على رُطَبٍ، فإن لم يجِد فعلى ماءٍ، لقولِ أنس رضي الله عنه: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ قبلَ أن يُصَلِّيَ على رُطَباتٍ، فإن لم تَكُن رُطَباتٌ فتمرات، فإن لم تَكُن تَمَراتٌ حسا حسواتٍ مِن ماءٍ...)) رواه أحمدُ (3/164)، وأبو داودَ (2/306)، والترمذيُّ (696) وقال: حسنٌ غريب، والدارقطني (2/185) وقال: هذا إسناد صحيح. فإن لم يجِدْ رُطَباً ولا تَمْراً ولا ماءً أفْطَرَ على ما نَيَسَّرَ مِن طعامٍ وشرابٍ.

وهُنا أمرٌ يَجِب التنبيه عليه، وهو أنَّ بعضُ الناسِ قد يجلِسُ على مائِدةُ إفطارِه ويَتَعَشَّى ويتْرُكُ صلاة المغربِ مع الجماعة في المسجِدِ، فيرتَكِب بذلك خَطَاً عظيماً، وهو التَّأَخُر عن الجماعة في المسجِدِن ويُفَوِّتُ على نَفْسِهِ ثواباً عظيماً، ويُعَرِّضُها للعُقوبةِ، والمشروعُ للصائمِ أن يُفْطِر أولاً ثُم يذهبُ للصلاة، ثُم يَتَعَشَّى بعدَ ذلِك.

ويُسْتَحَبُّ أن يَدْعُوَ عِنْدَ إفطارِهِ بما أَحَبَّ، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ للصائِمَ عِنْدَ فِطْرِهِ دَعْوَةٌ لا تُرَدُّ)) رواه ابن ماجة (1753)، والطَّيالِسي (2262)، والحاكِم (1/583)، والبيهقي في الشُّعَب (3/407).
ومِن الدُّعاءِ الوارِدِ أن يقول: ((الهم لك صُمْتُ، وعلى رِزْقِكَ أفْطَرْتُ)) رواه أبو داود (2358)، وفي المراسيل (99). وكان صلى الله عليه وسلم إذا أفطرَ يقولُ: ((ذَهَبَ الظَّمَاُ، وابْتَلَّتِ العُروق، وثَبَتَ الأجرُ إن شاء الله)) رواه أوب داود (2357)، والحاكِم (1/584) وقال: صحيح على شَرْطِ الشيخين.

وهكذا ينبغي للمسلِم أنْ يَتَعَلَّمَ أحكامَ الصِّيامِ والإفطارِ وقتاً وصِفةً حتى يُؤدِّي َصيامَه على الوجهِ المشروعِ الموافِق لِسُنَّةِ الرسولِ صلى اللهُ عليه وسلم، وحتى يكونَ صيامُه صحيحاً وعَمَلُه مَقبولاً عِنْدَ اللهِ، فإنَّ ذَلِكَ مِن أهمِّ الأُمُورِ. قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [سورة الأحزاب – الآية 21].

كتبه: فضيلة الشيخ صالِح بن فَوْزان بن عبد الله الفَوْزان
مِن كتاب: المُلَخَّص الفِقهي

16‏/08‏/2010

إلى الله المشتكى وإنا لله وإنا إليه راجعون

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد اختفت "كاميليا شحاتة" زوجة أحد الكهنة، وقامت مظاهرات كنسيَّة تدَّعي -كما هي العادة- أن المسلمين قد اختطفوها، ثم أُعلن أنه تم العثور عليها وتسليمها للكنيسة، وأن الدافع إلى اختفائها كان خلافات زوجية، ثم نشرت جريدة "المصريون" نقلاً عن أحد المسلمين أنها أسلمت، وأنها حاولت إشهار إسلامها في الأزهر، بيد أنه تمت المراوغة في إجابة طلبها حتى تم القبض عليها، وتسليمها إلى الكنيسة لتفتنها عن دينها، وهذه الرواية تبدو أكثر منطقية من رواية الخلافات الزوجية؛ لأنه لو كانت خلافات زوجية لبقيت في بيت أبيها، أو لسُلمت إلى زوجها، أما تسليمها إلى الكنيسة كي تَغسل لها مخها المغسول -وفق تصريح أحد كبرائهم- فهذا لا يحمل إلا معنًى واحدًا؛ هو أنها أسلمت، وسُلمت للكنيسة؛ لتلحق بأختها في الله "وفاء قسطنطين"، ثبتهما الله على الإسلام إن كانتا ما زالتا على قيد الحياة حتى يتوفاهما على الإسلام.
وهو أمر يملأ الصدر ألمًا وغيظًا وكمدًا، وهو غيظ لا يخفف من ألمه إلا الشكوى إلى الله من أقوام بلغ بيعهم لدينهم أن يصدوا عن سبيل الله مَن آمن به ورغب في الدخول في الإسلام -وإن تبوؤوا مناصب رنانة-، وقبلوا أن يمتنعوا من إشهار إسلام مَن أتت تريد الإسلام، وأعانوا على القبض عليها وتسليمها لأعداء الله الكفار المشركين عباد الصلبان الأحبار والرهبان ليفتنوها عن دينها، بل منهم مَن قام بالقبض عليها وهو يتسمى بأسماء المسلمين، ولكن تنفيذ الأوامر والتعليمات صار مقدمًا عنده على أوامر الله ورسوله، بل على الدين كله.
وأشكو إلى الله أقوامًا تبوؤوا مناصبهم باسم الإسلام الذي هو الدين الحق الذي لا يقبل الله سواه، وهم يحفظون قول الله -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) (آل عمران:19)، وقوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، وقوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة:17)، وقوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) (المائدة:73)، ويعلمون فتاوى علماء المذاهب المختلفة التي تعلموا عليها: "أنَّ مَن أتاه مَن يريد الإسلام فقال له انتظر إلى آخر المجلس فقد كفر وارتد عن الإسلام"، ثم هم ينصحون من أرادت الإسلام أن تصرف نظرها عن هذا الموضوع!
ونشكو إلى الله مَن تبوؤوا مناصبهم للحفاظ على الأمن بالبلاد في مثل هذا العدوان الصارخ كيف سمحت لهم نفوسهم بالصد عن سبيل الله، وقبول الفتنة التي هي أكبر من القتل؟! قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (البروج:10)، وكل من شارك في فتنة مسلم أو مسلمة ليرجعوا إلى الكفر فهو داخل في هذه الآية، وراضٍ بالكفر والشرك، ومعين عليه وعلى الظلم والعدوان، بل على مخالفة قانونهم ودستورهم ومواثيقهم الدولية التي كفلت -بزعمهم- حرية المعتقد، فلماذا تكون حرية الردة عن الإسلام ولا تكون حرية الدخول فيه؟! وكيف قبلت وطنيتهم المزعومة وجود سلطة للكنيسة كدولة داخل الدولة... لا؛ بل دولة فوق الدولة، ونقول لطواغيت الكنيسة وكل من أعانهم على مقاصدهم الكفرية الظالمة: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:74)، (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ) (فاطر:43)، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء:227).
ونقول لإخواننا: رمضان شهر الدعاء؛ فأكثروا من الدعاء للمستضعفين من المسلمين والمسلمات، والدعاء على الكفار والمنافقين.
اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا..
اللهم إنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ..

كتبه: ياسر برهامي

03‏/08‏/2010

العُصفور وقِطعة القِماش

ِالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين،
وبعد،
فَقَدْ قيل: "إنَّه بإظلام القلب واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساويه، إذ كل إناء ينضح بما فيه"، فصلاح الباطن أو فساده، وسلامة القلب أو مرضه، يظهر أثره على الجوارح وعلى ما يصدُر عن المرء مِن أقوال وأفعال.
وقد ابتلانا الله بتلك الطائفة المُسَمَّاة بالنخبة المثقفة، أتباع ما تُسَمَّى بالمدرسة العَقْلانِيَّة الحَدَاثِيَّة، الذين يُسَخِّرون أقلامهم ليل نهار للدعوة إلى نبذ دين الله كمرجعية شرعية ومنهج حياة، تحت شِعار العَلمانية اللادينية والليبرالية والحداثة والدولة المدنية.
ولم يفتأ أولئك الحداثيون في الطعن في رموز الدين وثوابته، والتطاول على أهل العِلم مِن أهل السُنَّة والجماعة، واتهام مَن يُخالِف أرائهم المنحرفة بالتخلف والرجعية والتَّزَمُّت والتشدد، إلى آخِر تِلك التُّهم البالية، في الوقت الذي يَدَّعُون فيه أنهم أصحاب العقول المتفتحة المستنيرة التي تقبل الرأي والرأي الآخر ولا تحجر على أفكار الغير.

وقد نشرت جريدة الأهرام في أعدادها الصادرة بتواريخ: 14/06/2010، و28/06/2010، و05/07/2010، مجموعة مِن المقالات لأحد رموز تلك المدرسة، وهو الكاتب جابر عصفور (الذي ساهم طه حسين بدرجة كبيرة في تكوين فِكره)، والتي يهاجم فيها حجاب المرأة المسلمة، داعياً إلى عدم اختزال الدين في "قطعة قماش"!!
ويبدو أن الكاتب قد ثار قلقه بسبب انتشار مظاهر الالتزام بين المسلمين وانتشار الحجاب والنقاب، ولم يقطع سلسلة تِلك المقالات إلا وفاة رفيق عمره نصر أبو زيد، فخصص مقال للبكاء على قبره.
 وبدلاً مِن أن يُبْدِي الكاتب فرحه بعودة المسلمين لدين الله والالتزام بتعاليمه، كمسلم مِن المفترض أنه مُحِب للإسلام وشعائره الظاهرة والباطنة، خرج علينا بتلك المقالات التي تُظْهِر ما يُحاول هو وأمثاله إخفاؤه مِن بُغض وكراهية لشعائر الإسلام، قال الله تعالى: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة آل عِمران – الآية 118]، وتظهر تلك الكراهية جلياً في كتاباته الداعية باستمرار إلى إقامة الدولة المدنية التي لا تقوم للإسلام فيها قائمة.

ويدندن هذا الكاتب وأمثاله دائماً حول مقولة "الإسلام دين الجوهر"، و"نبذ المظهر والاهتمام بالجوهر"، إلى آخِر تلك المقولات الباطلة التي تُعَطِّل أكثر شعائر الإسلام. فالصلاة والزكاة والصدقات، والصيام والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعيادة المريض واتباع الجنائز، وحُسْن الخُلُق، وسُنَن الفِطرة، وغيرها الكثير، كلها مِن العبادات الظاهرة التي لا تَصْلُح إلا بصلاح الجوهر، ويصلُح الجوهر بها.
فلا انفصال بين العبادات الظاهرة والباطنة، فالإسلام دين شامل كامل، كل شرائعه واجبة الاتباع، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [سورة البقرة – الآية 208]، و"السِّلْم" في هذه الآية هو "الإسلام"، قال السعدي في تفسيره لهذه الآية: "هذا أمرٌ مِن الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا ﴿فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ أي: في جميع شرائع الدين، ولا يتركوا منها شيئا، وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه، إن وافق الأمر المشروع هواه فعله، وإن خالفه تركه، بل الواجب أن يكون الهوى تبعاً للدين، وأن يفعل كل ما يقدر عليه مِن أفعال الخير، وما يعجز عنه يلتزمه وينويه، فيُدركه بِنِيَّتِه. ولما كان الدخول في السلم كافة، لا يمكن ولا يُتَصَوَّر إلا بمخالفة طرق الشيطان قال: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي: في العمل بمعاصي الله، ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ والعدو المبين لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء وما به الضرر عليكم". فترك أياً مِن شرائع الإسلام، ظاهرةً كانت أو باطنة، هو ابتاع لخطوات الشيطان، وإعلاء للهوى على الشرع.
وكما اهتم الإسلام بإصلاح الباطن وتزكية النفوس، فقد اهتم ايضاً بالعبادات الظاهرة التي تعكِس ما في الباطن مِن صلاح.

ولهذا فقد قال الكاتب في إحدى المقالات الثلاث أنه مِن المباديء الإسلامية: "فهم الإيمان بأنه ما وقر في القلب‏"، وهو قولٌ باطل مردود. وهو الأصل الذي دارت حوله المقالات الثلاث، وهو الذي يبني عليه كثير مِن أهل الضلال دينهم، ويبررون به تحللهم مِن التكاليف الشرعية بدعوى أنها قشور ويدَْعُون إلى الاكتفاء بـ"صلاح الباطن". فالإيمان قولٌ وعمل، والإيمان يزيد وينقُص. وإن صلح قلب هؤلاء لصلح ظاهرهم. قال الحسن البصري: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإنَّ قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا مِن الدنيا ولا حسنةً لهم، وقالوا: نحن نُحسن الظن بالله. وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل".
وقال الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [سورة الكهف – الآية 110]، و((شروط صحة الإيمان هي: التزام الباطن، وهو قول القلب وعمله، فقوله هو التصديق، وعمله هو الحُب والخوف والرجاء والانقياد والتسليم. والتزام الظاهر، وهو الإقرار وعمل الجوارح.. وقد ضَلَّ في هذه المسألة بعض الطوائف، فقَصَرُوا الإيمان على التصديق دون الانقياد، وهذا مِن أبطل الأباطيل لمخالفته صريح القرآن والسُنَّة)) انظر: حقيقة الإيمان، ص21 – أ.د. عمر بن عبد العزيز.

ومن عجيب ما قاله الكاتب في مقاله "الإسلام لم يفرض زيا محدداً للمرأة": "المرأة السافرة لا تقل احتراما عن المرأة المحجبة،‏ والعكس صحيح بالقدر نفسه،‏ وإنما هي مسألة أعراف اجتماعية‏،‏ واجتهادات في تأويلات نصوص دينية ولقد سمعت من الدكتور زقزوق أكثر من مرة،‏ ومن فضيلة الإمام أحمد الطيب‏،‏ شيخ الجامع الأزهر‏،‏ الجملة التي جعلتها عنوان هذه المقالة،‏ والتي أؤمن بصوابها معتمداً علي التراث العقلاني الإسلامي الذي تواصل عبر مشايخ الأزهر المستنير الذين قادوا حركة الاستنارة مع أقرانهم الأفندية المطربشين،‏ سواء في مدى الدفاع عن الدولة المدنية،‏ أو الإيمان بتحرر المرأة وحريتها وسفورها الذي أخذ يغدو علامة علي بزوغ إسهامها الفاعل في الحركة الوطنية بعد ثورة‏ 1919".
فعند هذا الكاتب وأمثاله تستوي المرأة السافرة الكاشفة عن مفاتنها أمام الرجال مع المرأة المحجبة العفيفة التي تتبع أمر الله بستر عوراتها، والإسلام العقلاني المستنير في نظر هؤلاء (الظلاميين حقيقةً) هو الذي يُدافِع عن الدولة المدنية التي لا مكان فيها للدين، وهو الذي يؤمِن بتحرر المرأة وسفورها وتعريها أمام أعين الكاتب ومَن هُم على شاكلته. فدينهم العقلاني لا مرجعية له للنصوص مِن قرآن وسُنة، ولا حاجة له في تقصي فهم الصحابة، الذين شهدوا نزول الوحي، لتلك النصوص. ولهذا فقد قال الكاتب في واحدة مِن تلك المقالات: "فأنا لي حق أن أفهم من الإسلام ما يهديني إليه عقلي‏".
والاستنارة والحداثة في نظر هؤلاء هي التحرر مِن قيود الشرع وتكاليفه، والتخلف والرجعية يرونها في الالتزام بما يسمونه بالقشور والشكليات، وإن أمر الشرع بها، قال الكاتب في مقال "قصيدة لم يطوها النسيان": "ما أكثر أسباب تخلفنا،‏ ومنها الجدال في مزايا شكلية الأزياء"‏. وأنا أتفق معه في هذا القول. فبالفعل لقد كَثُرت أسباب تخلفنا، ولكن بسبب أمثال هذا الكاتب الذين يضيعون أوقاتهم في الطعن في الدين والجدال في قضايا مُسَلَّم بها نَفَضَ العلماء منها أيديهم منذ قرون، وبدلاً مِن أن يخصص ذلك الكاتب قلمه ووقته لمحاربة الفساد والبطالة وسوء الحالة الاقتصادية وغيرها مِن قضايا الأمة، والتي تبدو بالنسبة له أقل أهمية مِن قضية انتشار ما أسماه بقطعة القماش، انشغل الكاتب بمحاربة الدين وشعائره، وبَذَل في سبيل ذلك الجهد والوقت، ثم اتهم غيره بالاهتمام بالشكليات والمظاهر. وواقع هؤلاء يُكَذِّب أقوالهم، فهم اتخذوا محاربة الدين قضية حياتهم، ولها سخروا الأموال والأوقات، ونشروا الكُتُب والمقالات.

ومِن العجيب أيضاً الخلط البَيِّن في مظاهر التدين عند هؤلاء، فالحجاب المأمور به شرعاً هو عندهم قطعة قماش شكلية ليس لها علاقة بالدين، في ذات الوقت الذي يتدينون به بأمور شكلية حقيقةً وينسبونها إلى الدين وهي لا تمت للشرع بِصِلة. فقد نقل الكاتب في مقاله الثالث والأخير "حوار عائلي عن الحجاب" قول السيدة زوجته: "لقد نشأنا سافرات،‏ ولكن ملتزمات بتعاليم الإسلام،‏ في بيوت تعمرها التقوى،‏ ويتردد فيها صوت المقريء مع رائحة البخور كل يوم جمعة"، فما علاقة البخور بالدين؟ وأليس هذا مِن الشكليات التي لا ينبغي الانشغال بها؟ وهل يتردد صوت القرآن في البيت باقي أوقات الأسبوع؟ وما هي مظاهر الالتزام بتعاليم الإسلام عند هؤلاء، فيما عدا رائحة البخور والاكتفاء بسماع المقرئين يوم الجمعة؟
فهؤلاء لا يعرفون مِن الدين لا مظهر ولا جوهر، فمظاهرهم وجواهرهم مبناها اتباع الهوى لا الشرع.

وقد احتوت المقالات على طامات أخرى لا يتسع المقام لذكرها الآن.
وأختم بنقل ما أورده الشيخ الألباني رحمه الله عن شروط حجاب المرأة المسلمة:
((شروط الحجاب:
1.  استيعاب جميع البدن إلا ما استُثني.
2.  أن لا يكون زينة في نفسه.
3.  أن يكون صفيقاً لا يَشِف.
4.  أن يكون فضفاضاً غير ضيقاً.
5.  أن لا يكون مبخراً مُطَيَّباً.
6.  أن لا يُشبِه لِباس الرجال.
7.  أن لا يُشبِه لباس الكافرات.
8.  أن لا يكون لِباس شُهرة.))، انظر حجاب المرأة المسلمة – الألباني.
وقد فَصَّل فيه الشيخ الألباني رحمه الله ذِكر الأدلة الشرعية لكل شرط، فليُرَاجَع.

وأنا أنصح الكاتب ومَن سار على نهجه بأن يتقي الله فيما يكتب، وأن يُسَخِر قلمه فيما ينفع الأمة، وليعلم أن كل ما تكتبه يداه سوف يُسأل عنه بين يَدَي الله، فليُعِد للسؤال جواباً ولا يَخُط في صحيفته ما قد يكون سبباً في عذابه يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، وأسأل الله ألا نكون ممن قال الله فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة النور – الآية 19].

أسأل الله أن يجنبنا الفِتَن، ما ظهر منها وما بطن.
وصلى الله على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين

كتبه: حاتم الحاجري
عفا الله عنه