03‏/08‏/2010

العُصفور وقِطعة القِماش

ِالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين،
وبعد،
فَقَدْ قيل: "إنَّه بإظلام القلب واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساويه، إذ كل إناء ينضح بما فيه"، فصلاح الباطن أو فساده، وسلامة القلب أو مرضه، يظهر أثره على الجوارح وعلى ما يصدُر عن المرء مِن أقوال وأفعال.
وقد ابتلانا الله بتلك الطائفة المُسَمَّاة بالنخبة المثقفة، أتباع ما تُسَمَّى بالمدرسة العَقْلانِيَّة الحَدَاثِيَّة، الذين يُسَخِّرون أقلامهم ليل نهار للدعوة إلى نبذ دين الله كمرجعية شرعية ومنهج حياة، تحت شِعار العَلمانية اللادينية والليبرالية والحداثة والدولة المدنية.
ولم يفتأ أولئك الحداثيون في الطعن في رموز الدين وثوابته، والتطاول على أهل العِلم مِن أهل السُنَّة والجماعة، واتهام مَن يُخالِف أرائهم المنحرفة بالتخلف والرجعية والتَّزَمُّت والتشدد، إلى آخِر تِلك التُّهم البالية، في الوقت الذي يَدَّعُون فيه أنهم أصحاب العقول المتفتحة المستنيرة التي تقبل الرأي والرأي الآخر ولا تحجر على أفكار الغير.

وقد نشرت جريدة الأهرام في أعدادها الصادرة بتواريخ: 14/06/2010، و28/06/2010، و05/07/2010، مجموعة مِن المقالات لأحد رموز تلك المدرسة، وهو الكاتب جابر عصفور (الذي ساهم طه حسين بدرجة كبيرة في تكوين فِكره)، والتي يهاجم فيها حجاب المرأة المسلمة، داعياً إلى عدم اختزال الدين في "قطعة قماش"!!
ويبدو أن الكاتب قد ثار قلقه بسبب انتشار مظاهر الالتزام بين المسلمين وانتشار الحجاب والنقاب، ولم يقطع سلسلة تِلك المقالات إلا وفاة رفيق عمره نصر أبو زيد، فخصص مقال للبكاء على قبره.
 وبدلاً مِن أن يُبْدِي الكاتب فرحه بعودة المسلمين لدين الله والالتزام بتعاليمه، كمسلم مِن المفترض أنه مُحِب للإسلام وشعائره الظاهرة والباطنة، خرج علينا بتلك المقالات التي تُظْهِر ما يُحاول هو وأمثاله إخفاؤه مِن بُغض وكراهية لشعائر الإسلام، قال الله تعالى: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة آل عِمران – الآية 118]، وتظهر تلك الكراهية جلياً في كتاباته الداعية باستمرار إلى إقامة الدولة المدنية التي لا تقوم للإسلام فيها قائمة.

ويدندن هذا الكاتب وأمثاله دائماً حول مقولة "الإسلام دين الجوهر"، و"نبذ المظهر والاهتمام بالجوهر"، إلى آخِر تلك المقولات الباطلة التي تُعَطِّل أكثر شعائر الإسلام. فالصلاة والزكاة والصدقات، والصيام والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعيادة المريض واتباع الجنائز، وحُسْن الخُلُق، وسُنَن الفِطرة، وغيرها الكثير، كلها مِن العبادات الظاهرة التي لا تَصْلُح إلا بصلاح الجوهر، ويصلُح الجوهر بها.
فلا انفصال بين العبادات الظاهرة والباطنة، فالإسلام دين شامل كامل، كل شرائعه واجبة الاتباع، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [سورة البقرة – الآية 208]، و"السِّلْم" في هذه الآية هو "الإسلام"، قال السعدي في تفسيره لهذه الآية: "هذا أمرٌ مِن الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا ﴿فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ أي: في جميع شرائع الدين، ولا يتركوا منها شيئا، وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه، إن وافق الأمر المشروع هواه فعله، وإن خالفه تركه، بل الواجب أن يكون الهوى تبعاً للدين، وأن يفعل كل ما يقدر عليه مِن أفعال الخير، وما يعجز عنه يلتزمه وينويه، فيُدركه بِنِيَّتِه. ولما كان الدخول في السلم كافة، لا يمكن ولا يُتَصَوَّر إلا بمخالفة طرق الشيطان قال: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي: في العمل بمعاصي الله، ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ والعدو المبين لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء وما به الضرر عليكم". فترك أياً مِن شرائع الإسلام، ظاهرةً كانت أو باطنة، هو ابتاع لخطوات الشيطان، وإعلاء للهوى على الشرع.
وكما اهتم الإسلام بإصلاح الباطن وتزكية النفوس، فقد اهتم ايضاً بالعبادات الظاهرة التي تعكِس ما في الباطن مِن صلاح.

ولهذا فقد قال الكاتب في إحدى المقالات الثلاث أنه مِن المباديء الإسلامية: "فهم الإيمان بأنه ما وقر في القلب‏"، وهو قولٌ باطل مردود. وهو الأصل الذي دارت حوله المقالات الثلاث، وهو الذي يبني عليه كثير مِن أهل الضلال دينهم، ويبررون به تحللهم مِن التكاليف الشرعية بدعوى أنها قشور ويدَْعُون إلى الاكتفاء بـ"صلاح الباطن". فالإيمان قولٌ وعمل، والإيمان يزيد وينقُص. وإن صلح قلب هؤلاء لصلح ظاهرهم. قال الحسن البصري: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإنَّ قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا مِن الدنيا ولا حسنةً لهم، وقالوا: نحن نُحسن الظن بالله. وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل".
وقال الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [سورة الكهف – الآية 110]، و((شروط صحة الإيمان هي: التزام الباطن، وهو قول القلب وعمله، فقوله هو التصديق، وعمله هو الحُب والخوف والرجاء والانقياد والتسليم. والتزام الظاهر، وهو الإقرار وعمل الجوارح.. وقد ضَلَّ في هذه المسألة بعض الطوائف، فقَصَرُوا الإيمان على التصديق دون الانقياد، وهذا مِن أبطل الأباطيل لمخالفته صريح القرآن والسُنَّة)) انظر: حقيقة الإيمان، ص21 – أ.د. عمر بن عبد العزيز.

ومن عجيب ما قاله الكاتب في مقاله "الإسلام لم يفرض زيا محدداً للمرأة": "المرأة السافرة لا تقل احتراما عن المرأة المحجبة،‏ والعكس صحيح بالقدر نفسه،‏ وإنما هي مسألة أعراف اجتماعية‏،‏ واجتهادات في تأويلات نصوص دينية ولقد سمعت من الدكتور زقزوق أكثر من مرة،‏ ومن فضيلة الإمام أحمد الطيب‏،‏ شيخ الجامع الأزهر‏،‏ الجملة التي جعلتها عنوان هذه المقالة،‏ والتي أؤمن بصوابها معتمداً علي التراث العقلاني الإسلامي الذي تواصل عبر مشايخ الأزهر المستنير الذين قادوا حركة الاستنارة مع أقرانهم الأفندية المطربشين،‏ سواء في مدى الدفاع عن الدولة المدنية،‏ أو الإيمان بتحرر المرأة وحريتها وسفورها الذي أخذ يغدو علامة علي بزوغ إسهامها الفاعل في الحركة الوطنية بعد ثورة‏ 1919".
فعند هذا الكاتب وأمثاله تستوي المرأة السافرة الكاشفة عن مفاتنها أمام الرجال مع المرأة المحجبة العفيفة التي تتبع أمر الله بستر عوراتها، والإسلام العقلاني المستنير في نظر هؤلاء (الظلاميين حقيقةً) هو الذي يُدافِع عن الدولة المدنية التي لا مكان فيها للدين، وهو الذي يؤمِن بتحرر المرأة وسفورها وتعريها أمام أعين الكاتب ومَن هُم على شاكلته. فدينهم العقلاني لا مرجعية له للنصوص مِن قرآن وسُنة، ولا حاجة له في تقصي فهم الصحابة، الذين شهدوا نزول الوحي، لتلك النصوص. ولهذا فقد قال الكاتب في واحدة مِن تلك المقالات: "فأنا لي حق أن أفهم من الإسلام ما يهديني إليه عقلي‏".
والاستنارة والحداثة في نظر هؤلاء هي التحرر مِن قيود الشرع وتكاليفه، والتخلف والرجعية يرونها في الالتزام بما يسمونه بالقشور والشكليات، وإن أمر الشرع بها، قال الكاتب في مقال "قصيدة لم يطوها النسيان": "ما أكثر أسباب تخلفنا،‏ ومنها الجدال في مزايا شكلية الأزياء"‏. وأنا أتفق معه في هذا القول. فبالفعل لقد كَثُرت أسباب تخلفنا، ولكن بسبب أمثال هذا الكاتب الذين يضيعون أوقاتهم في الطعن في الدين والجدال في قضايا مُسَلَّم بها نَفَضَ العلماء منها أيديهم منذ قرون، وبدلاً مِن أن يخصص ذلك الكاتب قلمه ووقته لمحاربة الفساد والبطالة وسوء الحالة الاقتصادية وغيرها مِن قضايا الأمة، والتي تبدو بالنسبة له أقل أهمية مِن قضية انتشار ما أسماه بقطعة القماش، انشغل الكاتب بمحاربة الدين وشعائره، وبَذَل في سبيل ذلك الجهد والوقت، ثم اتهم غيره بالاهتمام بالشكليات والمظاهر. وواقع هؤلاء يُكَذِّب أقوالهم، فهم اتخذوا محاربة الدين قضية حياتهم، ولها سخروا الأموال والأوقات، ونشروا الكُتُب والمقالات.

ومِن العجيب أيضاً الخلط البَيِّن في مظاهر التدين عند هؤلاء، فالحجاب المأمور به شرعاً هو عندهم قطعة قماش شكلية ليس لها علاقة بالدين، في ذات الوقت الذي يتدينون به بأمور شكلية حقيقةً وينسبونها إلى الدين وهي لا تمت للشرع بِصِلة. فقد نقل الكاتب في مقاله الثالث والأخير "حوار عائلي عن الحجاب" قول السيدة زوجته: "لقد نشأنا سافرات،‏ ولكن ملتزمات بتعاليم الإسلام،‏ في بيوت تعمرها التقوى،‏ ويتردد فيها صوت المقريء مع رائحة البخور كل يوم جمعة"، فما علاقة البخور بالدين؟ وأليس هذا مِن الشكليات التي لا ينبغي الانشغال بها؟ وهل يتردد صوت القرآن في البيت باقي أوقات الأسبوع؟ وما هي مظاهر الالتزام بتعاليم الإسلام عند هؤلاء، فيما عدا رائحة البخور والاكتفاء بسماع المقرئين يوم الجمعة؟
فهؤلاء لا يعرفون مِن الدين لا مظهر ولا جوهر، فمظاهرهم وجواهرهم مبناها اتباع الهوى لا الشرع.

وقد احتوت المقالات على طامات أخرى لا يتسع المقام لذكرها الآن.
وأختم بنقل ما أورده الشيخ الألباني رحمه الله عن شروط حجاب المرأة المسلمة:
((شروط الحجاب:
1.  استيعاب جميع البدن إلا ما استُثني.
2.  أن لا يكون زينة في نفسه.
3.  أن يكون صفيقاً لا يَشِف.
4.  أن يكون فضفاضاً غير ضيقاً.
5.  أن لا يكون مبخراً مُطَيَّباً.
6.  أن لا يُشبِه لِباس الرجال.
7.  أن لا يُشبِه لباس الكافرات.
8.  أن لا يكون لِباس شُهرة.))، انظر حجاب المرأة المسلمة – الألباني.
وقد فَصَّل فيه الشيخ الألباني رحمه الله ذِكر الأدلة الشرعية لكل شرط، فليُرَاجَع.

وأنا أنصح الكاتب ومَن سار على نهجه بأن يتقي الله فيما يكتب، وأن يُسَخِر قلمه فيما ينفع الأمة، وليعلم أن كل ما تكتبه يداه سوف يُسأل عنه بين يَدَي الله، فليُعِد للسؤال جواباً ولا يَخُط في صحيفته ما قد يكون سبباً في عذابه يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، وأسأل الله ألا نكون ممن قال الله فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة النور – الآية 19].

أسأل الله أن يجنبنا الفِتَن، ما ظهر منها وما بطن.
وصلى الله على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين

كتبه: حاتم الحاجري
عفا الله عنه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق