25‏/01‏/2012

العلاقة بين الشريعة والفقه، وبين الشرائع والقوانين الوضعية


الشريعة الإسلامية مُنَزَّلة مِن الله العليم الخبير، والفقه الإسلامي هو فقه هذه الشريعة، أما الشرائع والقوانين والوضعية فمصدرها الزعماء والرؤساء وأهل الرأي الذين فرضوا شرائعهم وقوانينهم على البشر ظلماً وعدواناً.

وعلى ذلك فإنَّ العلاقة بين الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي وبين الشرائع والقوانين الوضعية علاقة تضاد وتناقض، لا علاقة انسجام وتوافق.



عدم جواز التحاكم إلى القوانين الوضعية:

لا يجوز للبشر أنْ يتحاكموا إلى القوانين التي يضعها البشر لأنَّ التشريع حق الله وحده، والله لم يأذن لأحد مِن عباده أنْ يسُن القوانين ويضع الشرائع مِن دونه، فقال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ﴾ [سورة يوسف – الآية 40]. ومَن ادَّعى أنَّ مِن حقه أنْ يضع تشريعاً غير تشريع الله فقد نازع الله في إحدى خصوصياته، وأشرك نفسه مع الله، والله لا يُشرِك في حُكمه أحداً ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [سورة الشورى – الآية 21]، ﴿وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [سورة الكهف – الآية 26].

وقد أقر رجال القانون بأنَّ القوانين التي لها حق الطاعة هي التي تصدر مِن سلطة عليا، تملك قسر الناس على الالتزام بها، كما تملك معاقبة مخالفيها [المدخل للعلوم القانونية لتوفيق فرج (ص15)، والمدخل لحجازي (ج1/ص147)].

يقول أحد رجال القانون الإنجليز في القرن السابع عشر، وهو المدعو هوبز: ((القانون ليس مجرد نصيحة، بل هو أمر، وهو ليس أمراً مِن أي شخص إلى أي شخص آخر، ولكنه أمر يصدر فقط ممن يدان له بالطاعة إلى آخَر يجب عليه الرضوخ والامتثال)).

ومَن الذي يُدان له بالطاعة، ويجب على البشر الرضوخ والامتثال له غير الله سبحانه؟ فهو خالق البشر وخالق السماوات والأرض، وهو الذي يجب على الناس الخضوع له والامتثال له.

أما بقية الحُكَّام مِن البشر فهُم ليسوا آلهة، وطاعتهم مُقَيَّدة بطاعة الله.



كتبه: أ.د. عمر سليمان الأشقر

مِن كتاب: المدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي

14‏/01‏/2012

بيان الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح حول الدعوة إلى مليونية 25 يناير 2012م

          

بيان الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح حول الدعوة إلى مليونية 25 يناير 2012م



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد؛ فبمناسبة الدعوة إلى مليونية جديدة يوم الأربعاء 25/01/2012م تتوجه الهيئة الشرعية إلى الأمة المصرية بالبيان التالى:-



أولًا: إن الهيئة الشرعية تحمد الله تعالى وتشكره على ما تحقق خلال العام المنصرم من عمر هذه الثورة، وتذكِّر عموم المصريين بقوله تعالى: ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم.



ثانيًا: تنبِّه الهيئة إلى أن هذه الثورة كانت وما زالت وستبقى بإذن الله تعالى ثورة سلمية، لا مكان فيها للعنف أو التخريب أو التدمير تحت أى شعار كان، وعلى هذا الأساس فإن الهيئة تعلن مشاركتها في هذه المليونية وتدعم مطالبها.



ثالثًا: تطالب الهيئة ومن ورائها جموع المصريين أعضاء مجلس الشعب المنتخبين بالعمل على حراسة المكتسبات الثورية، ورعاية المنجزات المصرية، والمرابطة على المطالب العادلة التي لمَّا تتحقق بعد، وهي حاصلة بإذن الله تعالى.



رابعًا: تدعو الهيئة الشرعية جميع المشاركين في الثورة وقد دخلت عامها الثاني أن يعملوا معًا على بناء الوطن والمحافظة على مؤسساته، والتطلع إلى مستقبل أفضل بروح إسلامية ووطنية متفائلة.



خامسًا: تحذِّر الهيئة من المخططات الأجنبية الرامية إلى بث بذور الفرقة والتنازع بين المصريين، ومحاولات التدخل وفرض الوصاية، وتطالب الجميع بالارتفاع إلى مستوى المسئولية، والأخذ على أيدي العابثين المستهترين.



سادسًا: تطالب الهيئة بإعطاء مجلس الشعب المنتخب صلاحياته الكاملة بمجرد الإعلان عن تشكيلته النهائية، وفي جلسته الأولى المعلن عنها في 23/01/2012م.



سابعًا: تطالب الهيئة المجلس العسكري باستكمال خارطة الطريق وفقًا لجدول محدد المراحل والتوقيتات، مع مراعاة الإعلان عن ذلك قبل انعقاد الجلسة الأولى لمجلس الشعب المنتخب.



ثامنًا: تطالب الهيئة الأحزاب جميعها والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية خاصة بالائتلاف والتعاون، وتقديم صورة مشرقة ومشرفة تتناسب والآمال المعقودة عليهم من أبناء الوطن.



وفق الله جميع المخلصين، وحمى الله بلادنا، وسدد مسيرتنا، وأخذ بنواصينا لخير ما يحب ويرضى، والحمد لله رب العالمين.



الخميس 18 صفر 1433هـ / 12 يناير 2012

(الهيئة الشرعية للحقوق والإصــلاح)

09‏/01‏/2012

حديث القرآن عن المنافقين وحالهم مع شرع الله


الحمد لله وحده، والصلاة والسَّلام على مَن لا نبي بعده،

وبعد،

المنافقون، في كل زمانٍ ومكانٍ متشابهون، يُظهرون خلاف ما يُبطنون، يدَّعون حبهم لدين لإسلام وهُم لشريعته مبغِضون وللانقياد لها رافضون، بل هُم للإسلام وأهله في الليل والنهار يكيدون، وقد نسوا أنَّ الله مُخرجٌ ما يكتمون.

ولقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن المنافقين، وبَيَّن لنا صفاتهم وأحوالهم، ونبأنا الكثير مِن أخبارهم، وفَضَحَ ما يُخفون مِن حقدٍ على المؤمنين، ثم ذَكَر لنا سوء  عاقبتهم.



قال الله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ﴾ [سورة محمد – الآية 29]، ((أي: أيعتقد المنافقون أنَّ الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بل سيوضح أمرهم ويجَلِّيه حتى يفهمهم ذوو الأبصار)) [عمدة التفسير عن الحافظ بن كثير "مختصر تفسير القرآن العظيم" – أحمد شاكر]، والمرض الذي في قلوبهم إنما هو ((مِن شُبهة أو شهوة بحيث تُخرِج القلب عن حال صحته واعتداله)) [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان – عبد الرحمن السعدي].



والمنافقون يرفضون التحاكم إلى شرع الله ويَدْعون إلى ما يخالفه مِن الشرائع بحجة أنها أكثر مناسبةً للعصر الحديث، ثم يزعمون أنهم مِن المؤمنين.

قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾ [سورة النساء – الآيات 60، و61]، ((فوَصَفَ الله تعالى هؤلاء المُدَّعين للإيمان وهم منافقون بصفات: الأولى أنهم يريدون أنْ يكون التحاكم إلى الطاغوت –وهو كُل ما خالف حُكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلَّم- لأنَّ ما خالف حُكم الله ورسوله فهو طُغيان واعتداء على حُكم مَن له الحُكم وإليه يرجع الأمر كله، قال الله تعالى: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأعراف – الآية 54]، والثانية أنهم إذا دُعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدَّوا وأعرضوا، والثالثة أنهم إذا أصيبوا بمصيبة بما قدمت أيديهم –ومنها أنْ يُعثر على صنيعهم- جاءوا يحلفون أنهم ما أرادوا إلا الإحسان والتوفيق، كحال مَن يرفضون اليوم أحكام الإسلام ويَحْكُم بالقوانين المخالِفة لها زعماً منه أنَّ ذلك هو الإحسان الموافِق لأحوال العصر)) [شرح الثلاثة أصول لمحمد بن عبد الوهاب – محمد بن صالح العثيمين]، والآية ((ذامَّة لمَن عَدَلَ عن الكتاب والسُّنَّة وتحاكموا إلى ما سواهما مِن الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا)) [عمدة التفسير عن الحافظ بن كثير "مختصر تفسير القرآن العظيم" – أحمد شاكر].



والمنافقون المُدَّعون للإيمان، رغم إعراضهم عن حُكم الله ورسوله، فإنهم قد يستجيبون له إذا وافق أهواءهم.

قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنْـزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ*  وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [سورة النور – الآيات 46، 47، 48، 49، 50، 51]، فهُم ((يريدون أحكام الجاهلية ويُفَضِّلون أحكام القوانين غير الشرعية على الأحكام الشرعية)) [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان – عبد الرحمن السعدي]، وإذا استجابوا لبعض الأحكام الشرعية، فـ((ليس ذلك لأجل أنه حُكم شرعي، وإنما ذلك لأجل موافقة أهوائهم. فليسوا ممدوحين في هذه الحالة ولو أتوا إليه مُذعِنين، لأنَّ العبد حقيقةً مَن يتَّبِع الحق فيما يُحِب ويَكْرَه، وفيما يسره ويحزنه، وأما الذي يَتَّبِع الشرع عند موافقة هواه وينبذه حين مخالفته، ويُقَدِّم الهوى على الشرع، فليس بعبدٍ لله على الحقيقة)) [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان – عبد الرحمن السعدي]، وحالُ المنافقين ((لا يخرج أمرهم عن أنْ يكون في القلوب مَرَضٌ لازِمٌ لها، أو قد عَرَضَ لها شكٌ في الدين، أو يخافون أنْ يجور الله ورسوله عليهم في الحُكم، وأياً ما كان فهو كُفرٌ محض، والله عليمٌ بكلٍ منهم وما هو عليه منطوِ مِن هذه الصفات)) [عمدة التفسير عن الحافظ بن كثير "مختصر تفسير القرآن العظيم" – أحمد شاكر]، وما ذاك إلا ((لظلمهم وعنادهم. ويجب على كل مسلم إذا دُعي، الإجابة إلى القاضي العالِم بحكم الله، العادِل في حُكمه، لأنَّ العلماء ورثة الأنبياء، والحُكم مِن قضاة الإسلام العالِمين بحُكم الله العارفين بالكتاب والسُّنَّة العادلين في القضاء، هو حُكم بحُكم الله وحُكم رسوله)) [زبدة التفسير – د. محمد سليمان الأشقر].



والمنافقون اجتمعوا على تزيين الكفر والفسوق والعصيان والترويج له، وعلى الصد عن الإيمان وأهله والتنفير منهما، فكان مصيرهم النار خالدين فيها.

قال الله تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [سورة التوبة – الآيات 67، و68]، فالله ((ذَكَرَ ههنا جملة مِن أحوال المنافقين، وأنَّ ذكورهم في ذلك كإناثهم، وأنهم متناهون في النفاق والبُعد عن الإيمان، وفيه إشارةٌ إلى نفي أنْ يكونوا مِن المؤمنين)) [فتح القدير - الشوكاني]، ((لأنهم اشتركوا في النفاق فاشتركوا في تولِّي بعضهم بعضاً، وفي هذا قطع للمؤمنين مِن ولايتهم)) [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان – عبد الرحمن السعدي]، ولهذا فإنَّ الله ((حَكَم عليهم بالفسق، أي الخروج عن طاعة الله إلى معاصيه، وهذا التركيب يفيد أنهم هُم الكاملون في الفسق، ثُم بَيَّن مآل حال أهل النفاق والكُفر بأنه ﴿نَارَ جَهَنَّمَ﴾)) [فتح القدير - الشوكاني]، وقد ((جَمَعَ الله المنافقين والكُفَّار في نار جهنم، واللعنة والخلود في ذلك لاجتماعهم في الدنيا على الكُفْر والمعاداة لله ورسوله، والكُفر بآياته)) [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان – عبد الرحمن السعدي].



وختاماً، فيجب على أهل الإيمان الحذر مِن النفاق وأهله، فإننا نرى اليوم انتشار الباطل وعلوه، وأصبحنا نُعايِن فتناً وصفها رسول الله صلى الله عليه وسَلَّم بأنها ((يُصبح الرجل فيها مؤمناً، ويُمسي كافراً، حتى يصير الناس إلى فسطاطين، فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال مِن يومه أو غده)) [صحيح الجامع – الألباني (ح4194)].

فلينظر كلٌ منا أي فسطاط يبغي أنْ يصير إليه.



وصلَّى الله وسَلَّم على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى مَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين،
والحمد لله رب العالمين.



أبو إسماعيل حاتم الحاجري

ليلة الإثنين،
15 صفر 1433 هـ،

9 يناير 2011.

01‏/01‏/2012

السَّلَف


معنى "السَّلَف" لُغةً:

قال ابن فارس: ((سلف، السين واللام والفاء، أصل يدل على تقدُّم وسَبْق، مِن ذلك السلف الذين مضوا، والقوم السُلاَّف: المتقدمون)) [معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3/95)].

وقد استُعمِلت كلمة "سلف" في القرآن للدلالة على نفس المعنى، وهو التقدُّم والسبق في الزمن.

قال تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة:24]، أي: قدَّمتم في الدنيا.

وقال تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ﴾ [الزخرف:56]، أي: قوماً سابقين مَن جاء بعدهم، وقيل: عظةوعبرة لمن يأتي بعدهم. [لسان العرب لابن منظور(6/331)، وتفسير ابن كثير (4/131)، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي (6/654)].

وقال تعالى: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ [البقرة:275]، أي: سبق وتقدَّم.

وقال تعالى: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ﴾ [المائدة:95]، وقال جلَّ ذكره: ﴿  يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال:38].

كما اسُتْعمِلَت كلمة "سلف" في السُّنَّة للدلالة على نفس المعنى السابق.

ومِن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها وأرضاها: ((ونِعْمَ السَّلَف أنا لكِ)) [رواه البخاري (6285)، ومسلم (2450)]. وقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضى الله عنه: ((أسلمتَ على ما سَلَفَ مِن خيرٍ)) [رواه البخاري (1436)، ومسلم (123)].



معنى "السَّلَف" اصطلاحاً:

في اصطلاح علماء العقيدة يُطلق "السَّلَف" على الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان وتابعيهم، وأئمة الإسلام العُدُول، ممَّن اتفقت الأُمَّة على إمامتهم وعِظم شأنهم في الدين، وتلقَّى المسلمون كلامهم خَلَفَاً عن سَلَفٍ بالقبول، دون مَن رُميَ ببدعة، أو لَقَبٍ غير مَرْضي؛ كالخوارج، والرافضة، والناصبة، والقدرية، والمرجئة، والأشعرية، والمعتزلة، والجهمية، ونحوهم.. ومذهب السلف هو طريقهم في الاعتقاد المنسوب إليهم [لوامع الأنوار للسفاريني (1/20)، والأسئلة والأجوبة الأصولية لمحمد عبدالعزيز السلمان (ص11و12)].

وقال الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي: ((وعلى ذلك فالمراد بمذهب السَّلف: ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وأتباعهم، وأئمة الدين ممن شُهِد له بالإمامة، وعُرِف عظيم شأنه في الدين، وتلقَّى الناسُ كلامهم خَلَفَاً عن سَلَفٍ، كالأئمة الأربعة، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وابن المبارك، والنخعي، والبخاري، ومسلم، وسائر أصحاب السُّنَن، دون مَن رُمِيَ ببدعة، أو شُهِّر بلقبٍ غير مرضي، مثل: الخوارج، والروافض، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والمعتزلة)) [العقائد السلفية بأدلتها العقلية والنقلية لأحمد بن حجر آل بوطامي (ص11)].

فالسَّلف إذن مصطلحٌ يُطلَق على المتقدمين مِن الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهُم المذكورون في حديثه صلى الله عليه وسلم: ((خيرُكم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) [رواه البخاري (6695)، ومسلم (2535) مِن حديث عِمران بن حُصَيْن رضي الله عنه].

ومذهب السَّلَف هو مذهب الصحابة الكرام، والتابعين وتابعيهم مِن الأئمة المذكورين المشهورين.

ثم إنَّ كل مَن التزم بعقائد وأصول هؤلاء الأئمة كان منسوباً إليهم، وإنْ باعدت بينه وبينهم الأماكن والأزمان، وكل مَن خالفهم فليس منهم، وإنْ عاش بين أظهرهم وجمعه بهم نفس المكان والزمان.

ويشهد لذلك قول الأوزاعي: ((كتب إليَّ قتادة مِن البصرة: إنْ كاتت الدار فَرَّقَتْ بيننا وبينك، فإنَّ أُلفة الإسلام بين أهلها جامعةٌ)) [سِيَر أعلام النبلاء للذهبي (ج7/ص121)].

ويقول الدكتور محمود خفاجي: ((وليس التحديد الزمني كافياً في ذلك؛ بل لا بد أنْ يُضاف إلى هذا السبق الزمني موافقة الرأي للكتاب والسُّنَّة وروحهما، فمَن خالف رأيُه الكتاب والسُّنَّة فليس بسلفي، وإنْ عاش بين أظهُر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين)) [العقيدة الإسلامية بين السلفية والمعتزلة للدكتور محمود خفاجي (ص21)].

ويشهد لهذا: قولُ أبي عبد الله النَّباجي الزاهد: ((أصلُ العلِم خمسُ خصالِ: أولها: الإيمان بالله، والثانية: معرفة الحق، والثالثة: إخلاص العمل، والرابعة: أنْ يكون مَطعم الرجل مِن حلال، والخامسة: أنْ يكون على السُّنَّة والجماعة. فلو أنَّ عبداً آمن بالله عز وجل وأخلص نيته لله وعرف الحق على نفسه وكان مطعمه مِن حلال ولم يكن مِن السُّنَّة والجماعة لم ينتفع مِن ذلك بشيء)) [حلية الأولياء لأبي نُعَيم (ج9/ص310)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (ج7/ص217 والسياق له، وجامع العلوم والحِكَم لابن رجب (ج1/ص263)].

فالعبرة بالتزام السُّنَّة والجماعة بغض النظر عن المكان والزمان.



((ولقد بدأت الحاجة إلى الانتساب للسلف حين تفرقت الأُمَّة الإسلامية، وتعددت الاتجاهات الفكرية فيها حول أصول الدين، مما دعا علماء الأُمَّة الأثبات وأساطينها الأعلام، لتجريد أنفسهم لتلخيص وترتيب الأصول العظمى والقواعد الكبرى للاتجاه السلفي، والمعتقد القرآني النبوي، ومِن ثَمَّ نسبته إلى السلف الصالح؛ لقطع الباب على كل مَن ابتدع بدعة اعتقادية وأراد نسبتها إليهم، حتى كانت بالنسبة إلى السلف رمزاً للافتخار، وعلامة على العدالة في الاعتقاد، مما يدل على أنَّ النسبة إلى السلف لم تكن بدعةً لفظية، ولا مجرد اصطلاح كلامي، لكنه حقيقة شرعية ذات مدلول محدد؛ ولذلك لم تؤصل قواعده، ولم تحرر مواده، إلا بقيام الحاجة في الأُمَّة لبيان متكامل الصورة عما كان عليه أهل القرون المُفَضَّلة المشهود لهم بالعدالة مِن طريقة عقدية وسيرة توحيدية)) [نظرية شيخ الإسلام في السياسة والاجتماع للمستشرق الفرنسي لاووست (ص32)].

ويبدو جلياً مِن هذه الدراسة الاصطلاحية الشرعية لمدلول كلمة السلف، أنَّ هذا المصطلح يلتقي مع مصطلح أهل السُّنَّة والجماعة، وأهل الحديث، والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة.

فالسلف هم أهل الحديث كما ساهم بذل كثير مِن الأئمة وصدَّروا مؤلفاتهم بذلك، مثل كتاب "عقيدة السلف أصحاب الحديث" للإمام إسماعيل الصابوني.

والسلف هم الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، لأنهم الصحابة ومَن تابعهم مِن التابعين وتابعيهم.

والسلف هم أهل الأثر، وهم أهل الاتِّباع، لأنَّ مِن طريقتهم ((اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، واتباع سبيل السابقين الأولين مِن المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "عليكم بسُنَّتي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين مِن بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كل بدعة ضلالة"[منهاج السنة النبوية لابن تيمية(4/164)])) [شرح العقيدة الواسطية لمحمد خليل هراس (ص79-180)].



وما زال أهل السُّنَّة وما برحوا يستدلون على عقائدهم بالكتاب والسُّنَّة، فإنْ لم يجدوا فبما ثبت عن السلف الصالحين، مِن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وبهذا كانوا يتواصون ويوصون.

قال الأوزاعي: ((عليك بآثار مَن سلف وإنْ رفضك الناس)) [الشريعة للآجري (ص102)، وصححه الألباني في مختصر العلو (ص138)].

وقال: ((... واسلك سبيل سلف الصالح فإنه يسعك)) [شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة للالكائي (ج1/ص154)].

والإمام ابن كثير ينهج هذا النهج عند تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف:54]، يقول: ((فللناس في هذا مقالات كثيرةٌ جداً، ليس هذا موضع بسطها، وإنما يُسلَك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، مالِك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحق...)) [تفسير القرآن العظيم لابن كثير (ج2/ص221)].

والإمام الذهبي يقول في مقدمة كتابه "العُلُو للعلي العظيم": ((فإنْ أحببتَ يا عبد الله الإنصاف، فقِف مع نصوص القرآن والسُّنَّة، ثم انظر ما قاله الصحابة والتابعون وأئمة التفسير في هذه الآيات، وما حكوه مِن مذاهب السلف، فإما أنْ تنطق بعِلم، وإما أنْ تسكت بعِلم)) [العُلُو للعلي العظيم للذهبي (ص16)].



وعلى هذا فإنَّ الدعوة إلى اتباع السلف إنما هي دعوة إلى الإسلام والسُّنَّة، ولا غضاضة في ذلك.

قال شيخ الإسلام: ((لا عيب على مَن أظهر مذهب السلف، وانتسب إليه، واعتزى إليه؛ بل يجب قبول ذلك منه، فإنَّ مذهب السلف لا يكون إلا حقاً)) [مجموع الفتاوى (ج4/ص149)].



وأخيراً فإنَّ مصطلحَيْن كـ "أهل الأثر" أو "أهل الجماعة" يُطلقان أيضاً –بقِلَّة- ويُراد بهما أهل الحديث وأهل السُّنَّة والجماعة، وقد وقعا في كلام السلف أيضاً.

فمِن الأول قول أبي حاتم الرازي: ((مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ومَن بعدهم بإحسان، والتمسك بمذهب أهل الأثر مثل أبي عبد الله أحمد بن حنبل)) [شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة للالكائي (ج1/ص180)].

ومِن الثاني قول ابن المبارك حين سُئِل عن الجماعة، فقال: ((أبو بكر وعُمَر، قيل له: قد مات أبو بكر وعُمَر، قال: فلان وفلان، قيل له: قد مات فلان وفلان، فقال: أبو حمزة السكري جماعة )) [الجامع الصحيح للترمذي (ج4/ص466)].



كتبه: فضيلة الشيخ د. محمد يسري إبراهيم
مِن كتاب: طريق الهداية – مباديء ومقدمات علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة