01‏/01‏/2012

السَّلَف


معنى "السَّلَف" لُغةً:

قال ابن فارس: ((سلف، السين واللام والفاء، أصل يدل على تقدُّم وسَبْق، مِن ذلك السلف الذين مضوا، والقوم السُلاَّف: المتقدمون)) [معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3/95)].

وقد استُعمِلت كلمة "سلف" في القرآن للدلالة على نفس المعنى، وهو التقدُّم والسبق في الزمن.

قال تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة:24]، أي: قدَّمتم في الدنيا.

وقال تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ﴾ [الزخرف:56]، أي: قوماً سابقين مَن جاء بعدهم، وقيل: عظةوعبرة لمن يأتي بعدهم. [لسان العرب لابن منظور(6/331)، وتفسير ابن كثير (4/131)، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي (6/654)].

وقال تعالى: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ [البقرة:275]، أي: سبق وتقدَّم.

وقال تعالى: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ﴾ [المائدة:95]، وقال جلَّ ذكره: ﴿  يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال:38].

كما اسُتْعمِلَت كلمة "سلف" في السُّنَّة للدلالة على نفس المعنى السابق.

ومِن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها وأرضاها: ((ونِعْمَ السَّلَف أنا لكِ)) [رواه البخاري (6285)، ومسلم (2450)]. وقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضى الله عنه: ((أسلمتَ على ما سَلَفَ مِن خيرٍ)) [رواه البخاري (1436)، ومسلم (123)].



معنى "السَّلَف" اصطلاحاً:

في اصطلاح علماء العقيدة يُطلق "السَّلَف" على الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان وتابعيهم، وأئمة الإسلام العُدُول، ممَّن اتفقت الأُمَّة على إمامتهم وعِظم شأنهم في الدين، وتلقَّى المسلمون كلامهم خَلَفَاً عن سَلَفٍ بالقبول، دون مَن رُميَ ببدعة، أو لَقَبٍ غير مَرْضي؛ كالخوارج، والرافضة، والناصبة، والقدرية، والمرجئة، والأشعرية، والمعتزلة، والجهمية، ونحوهم.. ومذهب السلف هو طريقهم في الاعتقاد المنسوب إليهم [لوامع الأنوار للسفاريني (1/20)، والأسئلة والأجوبة الأصولية لمحمد عبدالعزيز السلمان (ص11و12)].

وقال الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي: ((وعلى ذلك فالمراد بمذهب السَّلف: ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وأتباعهم، وأئمة الدين ممن شُهِد له بالإمامة، وعُرِف عظيم شأنه في الدين، وتلقَّى الناسُ كلامهم خَلَفَاً عن سَلَفٍ، كالأئمة الأربعة، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وابن المبارك، والنخعي، والبخاري، ومسلم، وسائر أصحاب السُّنَن، دون مَن رُمِيَ ببدعة، أو شُهِّر بلقبٍ غير مرضي، مثل: الخوارج، والروافض، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والمعتزلة)) [العقائد السلفية بأدلتها العقلية والنقلية لأحمد بن حجر آل بوطامي (ص11)].

فالسَّلف إذن مصطلحٌ يُطلَق على المتقدمين مِن الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهُم المذكورون في حديثه صلى الله عليه وسلم: ((خيرُكم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) [رواه البخاري (6695)، ومسلم (2535) مِن حديث عِمران بن حُصَيْن رضي الله عنه].

ومذهب السَّلَف هو مذهب الصحابة الكرام، والتابعين وتابعيهم مِن الأئمة المذكورين المشهورين.

ثم إنَّ كل مَن التزم بعقائد وأصول هؤلاء الأئمة كان منسوباً إليهم، وإنْ باعدت بينه وبينهم الأماكن والأزمان، وكل مَن خالفهم فليس منهم، وإنْ عاش بين أظهرهم وجمعه بهم نفس المكان والزمان.

ويشهد لذلك قول الأوزاعي: ((كتب إليَّ قتادة مِن البصرة: إنْ كاتت الدار فَرَّقَتْ بيننا وبينك، فإنَّ أُلفة الإسلام بين أهلها جامعةٌ)) [سِيَر أعلام النبلاء للذهبي (ج7/ص121)].

ويقول الدكتور محمود خفاجي: ((وليس التحديد الزمني كافياً في ذلك؛ بل لا بد أنْ يُضاف إلى هذا السبق الزمني موافقة الرأي للكتاب والسُّنَّة وروحهما، فمَن خالف رأيُه الكتاب والسُّنَّة فليس بسلفي، وإنْ عاش بين أظهُر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين)) [العقيدة الإسلامية بين السلفية والمعتزلة للدكتور محمود خفاجي (ص21)].

ويشهد لهذا: قولُ أبي عبد الله النَّباجي الزاهد: ((أصلُ العلِم خمسُ خصالِ: أولها: الإيمان بالله، والثانية: معرفة الحق، والثالثة: إخلاص العمل، والرابعة: أنْ يكون مَطعم الرجل مِن حلال، والخامسة: أنْ يكون على السُّنَّة والجماعة. فلو أنَّ عبداً آمن بالله عز وجل وأخلص نيته لله وعرف الحق على نفسه وكان مطعمه مِن حلال ولم يكن مِن السُّنَّة والجماعة لم ينتفع مِن ذلك بشيء)) [حلية الأولياء لأبي نُعَيم (ج9/ص310)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (ج7/ص217 والسياق له، وجامع العلوم والحِكَم لابن رجب (ج1/ص263)].

فالعبرة بالتزام السُّنَّة والجماعة بغض النظر عن المكان والزمان.



((ولقد بدأت الحاجة إلى الانتساب للسلف حين تفرقت الأُمَّة الإسلامية، وتعددت الاتجاهات الفكرية فيها حول أصول الدين، مما دعا علماء الأُمَّة الأثبات وأساطينها الأعلام، لتجريد أنفسهم لتلخيص وترتيب الأصول العظمى والقواعد الكبرى للاتجاه السلفي، والمعتقد القرآني النبوي، ومِن ثَمَّ نسبته إلى السلف الصالح؛ لقطع الباب على كل مَن ابتدع بدعة اعتقادية وأراد نسبتها إليهم، حتى كانت بالنسبة إلى السلف رمزاً للافتخار، وعلامة على العدالة في الاعتقاد، مما يدل على أنَّ النسبة إلى السلف لم تكن بدعةً لفظية، ولا مجرد اصطلاح كلامي، لكنه حقيقة شرعية ذات مدلول محدد؛ ولذلك لم تؤصل قواعده، ولم تحرر مواده، إلا بقيام الحاجة في الأُمَّة لبيان متكامل الصورة عما كان عليه أهل القرون المُفَضَّلة المشهود لهم بالعدالة مِن طريقة عقدية وسيرة توحيدية)) [نظرية شيخ الإسلام في السياسة والاجتماع للمستشرق الفرنسي لاووست (ص32)].

ويبدو جلياً مِن هذه الدراسة الاصطلاحية الشرعية لمدلول كلمة السلف، أنَّ هذا المصطلح يلتقي مع مصطلح أهل السُّنَّة والجماعة، وأهل الحديث، والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة.

فالسلف هم أهل الحديث كما ساهم بذل كثير مِن الأئمة وصدَّروا مؤلفاتهم بذلك، مثل كتاب "عقيدة السلف أصحاب الحديث" للإمام إسماعيل الصابوني.

والسلف هم الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، لأنهم الصحابة ومَن تابعهم مِن التابعين وتابعيهم.

والسلف هم أهل الأثر، وهم أهل الاتِّباع، لأنَّ مِن طريقتهم ((اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، واتباع سبيل السابقين الأولين مِن المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "عليكم بسُنَّتي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين مِن بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كل بدعة ضلالة"[منهاج السنة النبوية لابن تيمية(4/164)])) [شرح العقيدة الواسطية لمحمد خليل هراس (ص79-180)].



وما زال أهل السُّنَّة وما برحوا يستدلون على عقائدهم بالكتاب والسُّنَّة، فإنْ لم يجدوا فبما ثبت عن السلف الصالحين، مِن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وبهذا كانوا يتواصون ويوصون.

قال الأوزاعي: ((عليك بآثار مَن سلف وإنْ رفضك الناس)) [الشريعة للآجري (ص102)، وصححه الألباني في مختصر العلو (ص138)].

وقال: ((... واسلك سبيل سلف الصالح فإنه يسعك)) [شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة للالكائي (ج1/ص154)].

والإمام ابن كثير ينهج هذا النهج عند تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف:54]، يقول: ((فللناس في هذا مقالات كثيرةٌ جداً، ليس هذا موضع بسطها، وإنما يُسلَك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، مالِك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحق...)) [تفسير القرآن العظيم لابن كثير (ج2/ص221)].

والإمام الذهبي يقول في مقدمة كتابه "العُلُو للعلي العظيم": ((فإنْ أحببتَ يا عبد الله الإنصاف، فقِف مع نصوص القرآن والسُّنَّة، ثم انظر ما قاله الصحابة والتابعون وأئمة التفسير في هذه الآيات، وما حكوه مِن مذاهب السلف، فإما أنْ تنطق بعِلم، وإما أنْ تسكت بعِلم)) [العُلُو للعلي العظيم للذهبي (ص16)].



وعلى هذا فإنَّ الدعوة إلى اتباع السلف إنما هي دعوة إلى الإسلام والسُّنَّة، ولا غضاضة في ذلك.

قال شيخ الإسلام: ((لا عيب على مَن أظهر مذهب السلف، وانتسب إليه، واعتزى إليه؛ بل يجب قبول ذلك منه، فإنَّ مذهب السلف لا يكون إلا حقاً)) [مجموع الفتاوى (ج4/ص149)].



وأخيراً فإنَّ مصطلحَيْن كـ "أهل الأثر" أو "أهل الجماعة" يُطلقان أيضاً –بقِلَّة- ويُراد بهما أهل الحديث وأهل السُّنَّة والجماعة، وقد وقعا في كلام السلف أيضاً.

فمِن الأول قول أبي حاتم الرازي: ((مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ومَن بعدهم بإحسان، والتمسك بمذهب أهل الأثر مثل أبي عبد الله أحمد بن حنبل)) [شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة للالكائي (ج1/ص180)].

ومِن الثاني قول ابن المبارك حين سُئِل عن الجماعة، فقال: ((أبو بكر وعُمَر، قيل له: قد مات أبو بكر وعُمَر، قال: فلان وفلان، قيل له: قد مات فلان وفلان، فقال: أبو حمزة السكري جماعة )) [الجامع الصحيح للترمذي (ج4/ص466)].



كتبه: فضيلة الشيخ د. محمد يسري إبراهيم
مِن كتاب: طريق الهداية – مباديء ومقدمات علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق