29‏/12‏/2010

لتَتَّبِعُن سَنَن مَن كان قَبْلَكُم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد كُنْتُ في زيارة دعوية لأمريكا منذ سبعة عشر عامًا تقريبًا في مثل هذه الأيام مِن السنة، فرأيت تمثال القس "نويل"، وهو شخصية وهمية يريد النصارى أن يُعَلِّق الأطفال قلوبهم بها كأنَّ الهدايا تأتي مِن عنده.
رأيتُ هذه التماثيل على البيوت، والمحال التجارية، وهذا لا يستغرب مِن هؤلاء النصارى الذين قال الله -عز وجل- فيهم: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (البقرة:113)، ولكن العجيب الغريب ما يحدث في بلاد المسلمين مِن تعليق هذه التماثيل القبيحة للقس "نويل" على المحلات التجارية التي يملكها مسلمون، وصَدَق النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ). قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: (فَمَنْ؟) (متفق عليه)، فهذا عَلَمٌ مِن أعلام النبوة.
أين عزة الإسلام؟! أين الهوية الإسلامية؟! أين ما ينبغي أن يتربى عليه أطفال المسلمين وشبابهم مِن وجوب تعلق قلوبهم بالله -عز وجل-، واعتقاد أنَّ النعم كلها مِن عند الله كما قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ (النحل:53)؟!
وقد أعجبني تربية أحد إخواننا لابنه كلما أتى له بثَوْبٍ جديد أو لعبة يقول له: "هذه من عند الله"! حتى يعلق قلب الطفل بالله -عز وجل-، ويطالب نفسه بواجب الشكر.
أُحِبُ أنْ أُنَبِّه أيضًا على أنْ الأعياد مِن شعائر الدين؛ فلا يجوز تهنئة اليهودي والنصراني بِعِيدِه؛ لأنَّ هذا إقرارٌ له على الباطل وتمييع لقضية التوحيد، قال الله -تعالى-: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ (آل عمران:19)، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران:85)، فالإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله -عز وجل- للبشرية إلى أنْ يَرِث اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها كما قال الله -تعالى-: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ (المائدة:3).
رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عمر -رضي الله عنه- ورقة مِن التوراة فَتَمَعَر وجهه -صلى الله عليه وسلم- وقال: (أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي) (أخرجه أحمد، وحسنه الألباني).
وعيسى -عليه السلام- إذا نَزَلَ في آخِر الزمان لا يَتَعَبَّد بشريعته؛ لأنَّ شريعته منسوخة، بل يتعبد بشريعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويُصَلي خلف المهدي ويقول: "إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الأُمَّةَ" (رواه مسلم).
فعلى المسلمين معرفة قَدْرَ دينِهم وشَرَف نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ (الأنبياء:10)، أي: فيه ارتفاع شأنكم وعزكم.
وقال عمر -رضي الله عنه-: "كنا أذل الناس فأعزنا الله برسوله -صلى الله عليه وسلم- فمهما طلبنا العزة بغيره أذلنا الله -عز وجل-".
نسأل الله -تعالى- أنْ يعزنا بالإسلام، وأنْ يعز الإسلام بنا، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.

كتبه: أحمد فريد

25‏/12‏/2010

الإطار الأخلاقي للمستثمر المسلم

للاستثمار، في إطار الشريعة، ضوابطه الخُلُقية التي تكفُل له النقاء والربانية، وتنأى به عن الجشع والأنانية، وتجعله أداة لبناء المجتمع والتراحم مع الآخرين.
والأصل في هذا كله ما استقر في يقين المستثمر المسلم مِن أنَّ المال - في الأصل - مال الله، وأنَّ الناس جميعاً مُسْتَخْلَفين فيه، وأنه ليس للمُسْتَخْلَف أنْ يَخْرُج على إرادة المالِك الحق ومقصوده، فإنْ فَعَل ذلك فَقَدَ أهليته للاستخلاف، وتحولت عنه هذه النعمة إلى مَن يُحسِن القيام عليها ورعاية حقوقها.

مِن كتاب: دراسات في فقه المعاملات المالية
إعداد: أ.د. عبد الله المصلح، وأ.د. صلاح الصاوي

12‏/12‏/2010

عنف الإسلاميين الذي كان.. وعنف غيرهم المستمر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد التصق العنف في الخطاب الإعلامي بالإسلاميين التصاقًا لا فكاك له حتى صارت كلمة جماعات العنف والإرهاب ترادف عند الجميع: "الجماعات الإسلامية"!
وعلى الرغم من أن استعمال "الإخوان" للسلاح كان في مرحلة ما قبل الثورة التي حملت السلاح هي الأخرى ضد "الملك" وأعوانه، وأطاحت بهم.

وعلى الرغم من أن الجماعة الإسلامية قد أعلنت مبادرة وقف العنف وأيدتها بتطبيق عملي لم تسجل عليه أي واقعة خرق حتى الآن.. كما أن جماعة الجهاد قد غيرت إستراتيجيتها، وأوقفت العمليات في مصر منذ زمن بعيد، بل أطلق بعضهم مبادرة لوقف العنف قريبة من مبادرة الجماعة الإسلامية؛ هذا بالإضافة إلى الاتجاهات الإسلامية التي لم تتبنى العنف أصلاً: كالـ"سلفيين"، و"أنصار السنة".

ومع هذا يصر الإعلام على توجيه تهمة الإرهاب إلى الإسلاميين ككل بلا تفريق، ولا يزال فريق العالمانيين يشكك في نوايا الجماعة الإسلامية رغم التزامها التام بالمبادرة! بل يشككون في نوايا غيرهم ممن لم يحمل السلاح قط، ويقولون: سيأتي اليوم الذي يحملونه عليهم!
إذن يمكننا أن نقول: إن العنف في تاريخ من تبنى العنف من الإسلاميين أصبح في خبر كان، ومع هذا فما زال هو المبتدأ والخبر في الخطاب العالماني!

ومن المفارقات العجيبة أن كثيرًا من هؤلاء العالمانيين ثوريون.. اشتراكيون.. نضاليون.. إلى آخر هذه الأوصاف.. لم يتوبوا بعد أو يعلنوا التبرؤ من تاريخهم في استخدام العنف، وإذا تجاوزنا عن تاريخ العنف وجدنا الحاضر أشد عنفًا بدءًا بالنصارى الذين يصورهم الإعلام دائمًا أنهم ضحايا دائمًا للعنف الإسلامي، ومرورًا بالأحزاب الديمقراطية والليبرالية التي تتشدق بمبادئ حرية الرأي، وانتهاءً بآحاد الناس الذين بلغ من جرأتهم وإرهابهم أن يذبح أحدهم ابن منافسه؛ حتى يشغله عن متابعة سير عملية الانتخابات.

إن أحداث "مبنى العمرانية" المراد تحويله إلى كنيسة.. وأحداث العنف في "انتخابات مجلس الشعب 2010"؛ لتجعل المـتأمل يعجب من أين أتت الجرأة لأطراف هذا العنف أن يتهموا الإسلاميين بالعنف بناءً على مراحل ولت من تاريخ الجماعات الإسلامية، بل إن العنف في جماعات العنف في أوجه لا يمكن مقارنته بأحداث العمرانية، ولا بالعنف الانتخابي!

وذلك لعدة أمور:

أولها: أن العنف الإسلامي ما هو إلا طريقة غير صحيحة للمطالبة بمطالب عادلة ومنطقية، ومنسجمة مع دين الغالبية العظمى من الشعب المصري، وهي: "تطبيق الشريعة" في واقع المسلمين ككل، وليس في النظام القضائي فقط.
ومِن ثمَّ فإن المجتمع كان بإمكانه أن يتفادى ذلك العنف بمعالجة الخطأ بالطريقة الصحيحة، ومِن ثمَّ تزول أسباب العنف أصلاً.
ولكن أحدًا من "الجوقة الإعلامية" لم يقل ذلك مع أن كثيرًا منهم يرى أن إصدار قانون بناء دور العبادة الموحد هو السبيل إلى عدم تكرار أزمة العمرانية، وكأنهم يطالبون الدولة أن تركع أمام الإرهاب الكنسي بكل أريحية، مع أنهم لم يقترحوا ذلك أثناء مواجهة النظام مع الجماعة الإسلامية، وهي المواجهة التي استمرت لسنوات!
بل إنه حينما استطاع بعض الشيوخ أن يقنعوا قيادات الجماعة الإسلامية بالتخلي عن العنف مقابل السماح لهم بالدعوة بالحسنى اعتبر الإعلام العالماني ذلك رضوخًا من السلطة مع الإرهابيين، وعرقلوا إتمام هذا الأمر لسنوات اكتوى فيها المجتمع بنيران هذا العنف المتبادل حتى أعلنت الجماعة الإسلامية عن المبادرة من جانب واحد؛ لتضمن عدم عرقلة الإعلام العالماني لها.
مع أن قانون بناء دور العبادة الموحد التي تطالب به الكنيسة بدعة لا نظن أن لها مثيلاً في العالم؛ فحتى أعتى الدول الليبرالية تضع قيودًا أمام بناء الأقليات لدور العبادة.

ثانيها: أن العنف الإسلامي كان معتمدًا على دراسات كان يمكن التغلب عليها بالمناقشة الفقهية لهذه الدراسات، وهو ما تم مؤخرًا بطريقة ذاتية بعد أن تقاعس المجتمع عن ذلك بخلاف العنف الهمجي الذي يعرف القائم به قبل غيره أنه نوع من البلطجة والاعتداء على النفوس والأموال كما في العنف الانتخابي.
أو العنف الكنسي الذي يُعتبر وفق قانون الكنيسة خروجًا على تعاليم دينهم، ومع ذلك يقومون به؛ فوفق كتابهم: "مَن ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر"!
ولما دعا داعيهم إلى الاستشهاد! قال: إن الاستشهاد النصراني هو أن يموت النصراني من أجل دينه دون تراجع، ولكنه لا يقاوم فضلاً عن أن يبتدئ بعدوان، وإذا بنا نجد الميليشيات المسلحة، والأعمال التخريبية، واحتلال شارع عمومي، ومبنى رمز الحكم في الشقيقة الصغرى للعاصمة، ومِن ثمَّ فهذا العنف غير مبرر بأي مبرر ديني ولا قانوني، ولا يجدي معه نقاش؛ لأن صاحبه يراه حرامًا في دينه، ومع ذلك يفعله.

ثالثًا: ويتفرع على هذا أن العنف الإسلامي في نهايته كانت تقوم به طائفة من الإسلاميين وسط اعتراضات من غيرهم من الإسلاميين، ووسط وجود قيادات دينية لو أعطت صلاحيات الكلام مع الشباب الغاضب، وإزالة أسباب غضبه، وهي أسباب جديرة بالإزالة بطبيعة الحال لأمكن إيقاف تيار العنف مبكرًا، بينما يمارس "الإرهاب الكنسي" قيادات كنسية تشغل وظائف في الدولة، وتأخذ بملئ كفيها عطايا من الدولة، وتصريح ببناء كنائس وحراسة عليها، واعتقال لكل من تسول نفسه المشي بجوارها، وتتبع لكل من يريد أن يشهر إسلامه، وقبض على كل من تحوم حوله شبهة أنه دعاه إلى الإسلام "بالحسنى"!
ثم يتوارون لتبدأ الميليشيات حيث انتهى الباباوات، ويغلقون الهواتف، وينقطعون في الخلوات ريثما تحرج الميليشيات الحكومة وتكسر المحلات، وتقذف التلميذات بالحجارة، وتشرع في قتل اللواءات؛ فإن اضطرت الحكومة إلى استعمال شيء من الشدة، والقبض على جزء من مثيري الشغب؛ خرج الباباوات من خلواتهم، وتغلبوا على أمراضهم؛ ليناشدوا الحكومة تقدير دوافع الشباب الغاضب، وأنهم "صعايدة".. في الوقت الذي كان الجميع يطالب بضرب الصعايدة الإسلاميين في سويداء القلب!

رابعًا: وأعجب من ذلك كله أن يناشِد قس الرئيس أن يُعامل هؤلاء الذين خالفوا تعاليم دينهم، وخالفوا القانون، معاملة مثيري شغب من دولة أخرى في مباراة كرة قدم، مؤكدًا بذلك أن الكنيسة ترى نفسها دولة داخل الدولة، فما يكون من ترحيل عدد من الزائرين المشاغبين على سبيل المجاملة الدبلوماسية لدولهم مع منعهم من دخول البلاد ثانية لا يقاس عليه الميليشيات الداخلية التي خرجت لتحتل مبنى المحافظة، ثم يُراد لها أن تعود إلى بيتها بمكالمة تليفونية مِن "أبوهم"؛ ليستعدوا في المرة القادمة لاحتلال ما هو أكبر من مبنى المحافظة!

ثم إنه قد فات هذا القس أن "تونس" ردت في اليوم التالي بمجاملة دبلوماسية مشابهة، وأفرجت عن صيادين مصريين محتجزين لديها؛ فهل لدى دولة الكنيسة استعداد لإفراج مشابه.. ؟!
أظن لا -والله المستعان-.

  
كتبه/ عبد المنعم الشحات
26-ذو الحجة-1431هـ   2-ديسمبر-2010  



07‏/12‏/2010

سوء الخاتمة وختامُ العام

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فإن الأيام تُطوى، والأهِلة تتوالى، والأكفان تُنسج، والأعمال تُدَوَّن، والموعد يقترب.
أجيال تفِد إلى الدنيا كل يوم، وأجيال ترحل عنها. والغفلة تستحكم على كثيرٍ مِن القلوب؛ حتى غدا أكثر بني آدم يبنون دنياهم ويهدمون أخراهم.
ها هي جموع المسلمين لا تتمعر وجوههم إذا انتهكت محارمُ الله؛ لكنهم يغضبون إذا انتُقص شيءٌ مِن دنياهم، إلا من رحم الله، وقليلٌ ما هم.
فالتاجرُ منهم ينظر إلى الربح ولا ينظر إلى طريقة التحصيل أحرامٌ هي أم حلال!
والموظف يستيقظ فزعاً لعمل الدنيا لكنه ينام عن عمل الآخرة!
والمرأة تخلت عن كثيرٍ مِن حجابها، وارتكبت كثيراً مما يسخط ربها!
والأسرةُ المسلمة هَمُّها أن لا ينتقص شيءٌ مِن وسائل عَيشها الكريم، ولا أنْ تمُسَّ رفاهيتها بسوء.
وأما همُّ الإسلام وهمُّ الآخرة فليس في الحسبان إلا عند قليل ممن لم تأخذهم دوامة المادية المعاصرة. وبعضٌ مما نرى مِن أعمال الخير ما كانت لأجل الله والدار الآخرة؛ وإنما هي لأجل الدنيا. ومِن الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا.
وقليل ثم قليل أولئك المخلصون الصادقون.

مَن يَعتبِر؟!

ينقضي هذا العامُ وكأنَّ أيامه لم تكن شيئاً مذكوراً.
اثنا عشر شهراً، بدأ هلالُ الواحدِ منها ضعيفاً ثم أخذ يكبر حتى صار بدراً، ثم أخذ في الضعف حتى تلاشى، ثم تبعته الشهور الأخرى حتى تم ميقاتها، وانقضى أجلها، وتمت السنة!!

الله أكبر، ما أسرع الأيام!
وما أكثر العصيان!
وما أقل الاعتبار!
والإنسان يمضي في هذه الدنيا كما مضت تلك الشهور.

لو سألت الشيخ الكبير عن شبابه وطفولته لحدثك عنها، وأخبرك أنها مرت سريعاً، وتجد أن أمله لا يزال طويلاً.
والشاب نسي طفولته وأمّل في مزيد من العيش، وإن طال به العمر ليَبْكِيَنَّ شبابه. وهكذا الدنيا.. ولكن أين العقلاء والمعتبِرون؟!

هل يكفي طول العمر؟

إن العبرة ليست بطول العمر، وإنما هي بحُسن العمل.
هل صَحِب الجاهُ أهلَ الجاهِ إلى قبورهم؟
وهل كان المالُ مع أهلِ المال في لُحودهم؟!

يالفوز مَن صَلُح ظاهره وباطنه، فخُتِم له بحُسن عمله.
ويالخسارة مَن فَسَد باطنه فخُتم له بالسوء.
ذلك أن مَن مات على شيء بُعِث عليه كما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يُبْعَث كل عبدٍ على ما مات عليه ) [رواه مسلم 2878].
وفي قصة الرجل الذي سقط عن راحلته في عرفة أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يُبْعَث يوم القيامة مُلَبِّياً، وأخبر أن الشهيد يُبْعَث يوم القيامة وجرحه يُدمى: اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
وما كان موت الفجأة مذموماً إلا لأنه يَفْجَأ صاحبه قبل التوبة مِن المعاصي.

خوف السلف مِن سوء الخاتمة

لقد كان خوف السلف مِن سوء الخاتمة عظيماً.

بكى سفيان الثوريُ ليلةً إلى الصباح، فقيل له: أبكاؤك هذا على الذنوب؟
فأخذ تبنة من الأرض وقال: الذنوب أهون مِن هذه؟ إنما أبكي خوف الخاتمة. [ العاقبة في ذكر الموت والآخرة للأشبيلي 175 ].

وقال عطاء الخفاف: ما لقيت سفيانَ إلا باكياً فقلت: ما شأنك؟
وقال: أتخوف أن أكون في أم الكتاب شقياً [ السِيَر7/266].

وقال سهل التستري: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله إذ قال ( وقلوبهم وجلة ).

أسباب سوء الخاتمة

أعظم سبب لسوء الخاتمة فسادُ القلب بفساد الاعتقاد حتى ولو صَلَح الظاهر، وأقبح ذلك التلبسُ بالشرك أو شيء منه أو الاستمرار على البدعة.
والشركُ مَنَعَ عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب أن يشهد شهادة الحق حالَ احتضاره، وكم من مبتدع خُتِم له بالسوء.

ومقارفة الكبائر، والإصرارً على الذنوب مفسدٌ للقلب، مؤذنٌ بشؤم العاقبة، وسوء الخاتمة.
والمحتضر يردد حال احتضاره ما كان يكثر من قولٍ وعمل خيراً كان أم شراً.
وواقع المحتضرين يدل على ذلك؛ فأهل الصلاح يختم لهم في الغالب بصالح أعمالهم، وأهل الفساد يختم لهم بفسادهم.
وكم مِن عاصٍ مات وهو يُغَنَِي أو وهو يشرب الخمر أو انعقد لسانه عن شهادة الحق فلم يستطع نطقها عوذاً بالله مِن ذلك.

قال مجاهد رحمه الله تعالى: ما مِن ميت يموت إلا مُثِّل له جلساؤه الذين كان يجالسهم [ الكبائر للذهبي 100 ].

وقد ذكر العلماء أن سوء الخاتمة على رتبتين إحداهما أعظم من الأخرى:
1 - فأما الرتبة العظيمة الهائلة فهي أن يَغلبَ على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله إما الشكُ وإما الجحود؛ فتُقْبَض الروح على تلك الحالة فتكون حجاباً بينه وبين الله تعالى أبداً، وذلك يقتضي البٌعدَ الدائم والعذاب المخلد.

2 - والثانيةُ وهي دونها: أن يغلِبَ على القلب عند الموت حبُ أمَْر مٍن أمور الدنيا أو شهوة من شهواتها، فيتمثلُ ذلك في قلبه ويستغرقه حتى لا يبقى في تلك الحالة متسعٌ لغيره.
فمهما اتفق قبضُ الروح في حالة غلبة حب الدنيا فالأمر مخطر؛ لأن المرء يموت على ما عاش عليه وعند ذلك تعظم الحسرة [ انظر: إحياء علوم الدين 4/162]

فيا ترى: كم مقدارُ الدنيا في قلوبنا؟! وماذا قدمنا لآخرتنا؟!

إن عملَ كثيرين منا ولهاثهم خلف المتاع والمال لَيَدُل على أنَّ الدنيا استمكنت مِن قلوب الكثيرين، أو على الأقل غلبت على قلوبهم فأفسدتها وصدتها عن الآخرة؛ حتى أصبحوا لا يجدون لذة العبادة. بل لذتهم وسعادتهم في منصب يبلغونه، أو مالٍ يكسبونه، أو مجدٍ يحققونه، ولو كان بعيداً عن ذكر الله وشكره وحسن عبادته.
ومن أعظم الشؤم وأسوأ العاقبة، أن يعملَ العبدُ في الصالحات وقد كُتِبَ في أم الكتاب مِن الأشقياء. يراه الناسُ فيغبطونه على صالح عمله؛ لكنهم لا يعلمون فساد نيته، وخبث طويته، ومراءاته في عمله، وما اطلعوا على أسراره وخفاياه؛ بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى.

عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ لا يدع شاذَّةً إلا اتَّبَعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحدٌ كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما إنه من أهل النار ) فقال رجل مِن القوم: أنا صاحبهُ أبداً، قال: فخرج معه، كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجلُ جُرحاً شديداً؛ فاستعجل الموت فوضع نَصْل سيفه بالأرض وذُبَابَه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه؛ فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي ذكرتَ آنفاً مِن أهل النار؛ فأعظَمَ الناسُ ذلك. فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه حتى جُرِح جُرحاً شديداً؛ فاستعجل الموت، فوضع نَصْل سيفه بالأرض وذُبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ( إنَّ الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو مِن أهل النار، وإنَّ الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو مِن أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم ) رواه مسلم 112.

أهمية صلاح القلوب والأعمال

مكانُ الدفن، وساعةُ الموت، وكثرةُ المشيعين، ليست تزيد في الحسنات أو تنقصُ السيئات.
وقد يكون منها ما هو علامةُ خير، ودليلُ فوز؛ كشهادة الصالحين للعبد بالخير، فهُم شهداء الله في أرضه؛ بيد أن العبرةَ بصلاح القلوب، وقبولِ الأعمال.

والناس يحكُمون بمقتضى الظاهر، وأما القلوب فلا يعلم مكنونها إلا الله تعالى.
وقد مرَّ بعض الصالحين بيهودي ميتٍ قد أوصى أن يُدفن ببيت المقدس، فقال: أيُكابر هؤلاء الأقدار؟ أما علِموا أنهم لو دُفِنوا في الفردوس الأعلى لجاءت لظى بأنكالها حتى تأخذه إليها، وتنطلق به معها [ العاقبة 178 ].

وقال آخر: مَن حُكِم له بالسعادة لا يشقى أبداً، وإنْ ألحَّ غاويه، وكَثُر معاديه، وأُحيط به مِن جميع نواحيه.
ومَن حُكِم له بالشقاوة لا يسعد أبداً، وإن عُمِّر ناديه، وأُخْصِب واديه، وحَسُنَت أواخره ومباديه.

كم مِن عابِدٍ ظهرت عليه أنوارُ العبادة، وآثار الإرادة، وبدت منه مخايل السعادة، وارتفع صيته، وانتشر في الآفاق ذكره، وعظم في الناس شأنه جمحت به الأقدار جمحة ردته على عقبيه فختم له بالسوء [ تنظر: العاقبة 178].

ومِن المعلوم أنَّ سوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره، وصَلُح باطنه. وإنما تكون لمن كان عنده فسادٌ في القلب، وإصرار على الكبائر؛
فربما غَلَبَ ذلك عليه حتى ينزِل به الموتُ قبل التوبة، ويثِبَ عليه قبل الإنابة.
وربما غَلَبَ على الإنسان ضربٌ مِن الخطيئة، ونوعٌ مِن المعصية، وجانبٌ مِن الإعراض، ونصيب مِن الافتراء؛ فمَلَكَ قلبَه، وسبى عقله؛ فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة؛ فيتخبطُه الشيطانُ عند موته، ويسلبُه إيمانه.

والعبد المؤمن مأمور بأنْ يجتهد في إصلاح قلبه، ويسارع في مرضاة ربه، وأنْ يسأل الله الثبات إلى الممات؛ فإن القلوب بين إصبعين مِن أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.

وفي ختام هذا العام، هل نعتبر بما مضى مِن الأيام؟!
هل نخاف مِن سوء الختام؟!
هل يبادر العاصي منا إلى ربه فيتوب من معصيته، ويسارع إلى طاعته؟!
فلعل الله يقْبَل توبتَه ويكتبُ له بها سعادةً لا يشقى بعدها أبداً.

أسأل الله تعالى أنْ يُصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يحسن خواتمنا، وأن يجعلنا ممن قبله ورضى عنه إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

كتبه: إبراهيم بن محمد الحقيل
منقول مِن مطوية بعنوان: سوء الخاتمة وختامُ العام
دار ابن خزيمة

02‏/12‏/2010

مِن فوائد دراسة أسباب النزول

لا يستغني المُفَسِّر للقرآن الكريم و المتَدَبِّر له عن معرفة أسباب نزول آياتِه، ((وقد اعتنى الباحثون في عُلوم القرآن بمعرفة سبب النزول، ولمسوا شدة الحاجة إليه في تفسير القرآن)) [مباحِث في علوم القرآن – منَّاع القطَّان (ص71)].
ومِن فوائد معرفة أسباب النزول:
·      بيان الحِكمة مِن تشريع بعض الأحكام، ((وكيف أنَّ الأحكام الشرعية كانت تأتي مناسِبة للواقع، ومسايِرة للأحداث، ومحقِّقَة ومستوفية حاجة المكلَّف)) [المقدمات الأساسية في علوم القرآن – الجديع (ص48)].
((وفي ذلك نفع للمؤمن وغير المؤمن. أما المؤمن فيزداد إيماناً على إيمانه، ويحرص كل الحرص على تنفيذ أحكام الله والعمل بكتابه، لِما يتجلى له مِن المصالح والمزايا التي نيطت بهذه الأحكام ومِن أجلِها جاء هذا التنزيل. وأما الكافر فتسوقه تلك الحِكَم الباهرة إلى الإيمان إنْ كان منصِفاً، حين يعلم أنَّ هذا التشريع الإسلامي قام على رعاية مصالح الإنسان)) [مناهل العرفان في علوم القرآن – الزرقاني (ج1/ص91)].
فالقرآن الكريم ((نَزَلَ قانوناً للحياة، تُضبَط به المعاملات مِن بيوع ونكاح وطلاق وأقضية وميراث، كما تُضبَط به العبادات مِن طهارة وصلاة وصيام وغير ذلك، ليس للفرد خاصَّة بل للمجتمع والدولة كذلك)) [المقدمات الأساسية في علوم القرآن – الجديع (ص49)].
·      فَهْم معاني آيات القرآن الكريم، ودفع الإشكال عنها.
فمعرفة أسباب النزول خَير مُعِين على ((كشف الغموض الذي يكتنف بعض الآيات في تفسيرها ما لم يُعرَف سبب نزولها)) [مباحِث في علوم القرآن – منَّاع القطَّان (ص76)] ، ((وهذا يعني أنَّ معرفة السبب أصلٌ في تفسير الآية، ولذلك يهتدي به المفسرون لإدراك معاني القرآن)) [المقدمات الأساسية في علوم القرآن – الجديع (ص49)].
((قال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن الكريم)) [نقلاً عن الإتقان في علوم القرآن – السيوطي (ص71)].
ومثالٌ لذلك قَول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [سورة البقرة – الآية 158].
عن عُروة بن الزُّبَيْر رضي الله عنه أنَّه قال: ((قُلت لعائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾، فلا أرى على أحدٍ شيئا أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول، كانت "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما"، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهِلُّون لمناة، وكانت مَناة حَذْو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطُوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾. زاد أبو سفيان وأبو معاوية، عن هشام: ما أتم الله حج امرئ، ولا عمرته، ما لم يطف بين الصفا والمروة)) [صحيح البخاري (ح1790) – كتاب العُمرة، باب يفعل بالعمرة ما يفعل بالحج].
·      قَصْر تخصيص الدليل على ما سواه.
فإنَّ ((اللفظ قد يكون عامَّاً، ويقوم الدليل على تخصيصه. فإذا عُرِفَ السبب، قصر التخصيص على ما عدا صورته. فإنَّ دخول صورة السبب قطعي، وإخراجها بالاجتهاد ممنوع)) [الإتقان في علوم القرآن – السيوطي (ص71)]، ((وذلك لقيام الإجماع على أنَّ حُكم السبب باقٍ قطعاً، فيكون التخصيص قاصراً على ما سواه. فلَو لم يُعرَف سبب النزول لجاز أنْ يُفهَم أنه مما خرج بالتخصيص، مع أنه لا يجوز إخراجه قطعاً للإجماع المذكور)) [مناهل العرفان في علوم القرآن – الزرقاني (ج1/ص94)].
·      ((تيسير الحفظ، وتسهيل الفهم، وتثبيت الوحي في ذهن كل مَن يسمع الآية، إذا عَرَف سببها. وذلك لأن رَبْط الأسباب بالمسببات، والأحكام بالحوادِث، والحوادِث بالأشخاص والأزمنة والأمكنة، كل أولئك مِن دواعي تَقَرُّر الأشياء وانتقاشِها في الذهن، وسهولة استذكارها عند استذكار مقارنتها في الفِكر))  [مناهل العرفان في علوم القرآن – الزرقاني (ج1/ص95)].
((ومعرفة أسباب النزول هي السبيل الأفضل لتحقيق الأهداف التربوية في دراسة القرآن الكريم تلاوةً وتفسيراً... وعلى المُرَبِّين أنْ يستفيدوا مِن سياق أسباب النزول في التأثير على الطلاب الدارسين وجماهير المسترشِدين، فذلك أجدى وأنفع وأهدى سبيلاً لتحقيق الأهداف التربوية بأروَع معانيها وأرقى صورها)) [مباحِث في علوم القرآن – منَّاع القطَّان (ص91)، باختصار].


كتبه: حاتم الحاجري، عفا الله عنه
مِن بحث بعنوان: أسباب النزول.. قواعد أُصُولية