30‏/05‏/2010

أهل السُنَّة أحرص الناس على الاجتماع والائتلاف، وأبعد الناس عن الافتراق والاختلاف

إن اعتصام أهل السُنة بالجماعة من أهم أركان منهجهم المبارك.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عِمران – الآية 103].
قال ابن جرير الطبري: "يُريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدينِ اللهَ الذي أمركم به، وعَهْدِهِ الذي عَهِدَهُ إليكم في كتابه إليكم؛ مِن الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله". (تفسير الطبري ج4، ص30).
وروى ابن جرير الطبري بأسانيده إلى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في تفسير "حبل الله" في قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [سورة آل عِمران – الآية 103]: "الجماعة". (تفسير الطبري ج4، ص30)، ومثل هذا نقله القرطبي عنه في التفسير. (تفسير الطبري ج4، ص159).
وذكر ابن جرير أقوالاً أخرى عن السلف في تفسير معنى حبل الله، منها: القرآن، والإخلاص لله وحده، والإسلام. (تفسير الطبري ج4، ص30، 31).
وقال الشوكاني في نفس الآية: "أمر الله أن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام أو بالقرآن، ونهاهم عن التفرق الناشيء عن الاختلاف في الدين". (فتح القدير ج1، ص367).
"وهذه الأقوال مؤداها واحد ونتيجتها واحدة، فإن الاعتصام بالقرآن، والإخلاص لله وحده، والتمسك بالإسلام الصحيح الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كلها مما ينتج عنه تآلف المسلمين واجتماعهم وترابطهم، وتماسك مجتمعهم".  (وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق – د. جمال بادي ص19، 20).
قال ابن القيم رحمه الله في حقيقة هذا الاعتصام: "وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم، ومعقولاتهم، وأذواقهم، وكشوفاتهم، ومواجيدهم؛ فمن لم يكن كذلك فهو مُنْسَلٌّ من هذا الاعتصام، فالدين كله في الاعتصام به وبحبله، عِلماً وعَملاً، وإخلاصاً واستعانةً، ومُتابعةً، واستمراراً على ذلك إلى يوم القيامة".  (مدارج السالكين ج3، ص323).
قال ابن المبارك:
إن الجماعة حبلُ الله فاعتصموا         مِنه بعروته الوثقى لمن دانا
(انظر تفسير القرطبي ج4، ص159).
فأهل السُنَّة على الحقيقة هم أهل الجماعة والاجتماع، مع الحرص على ذلك والتواصي به ظاهراً وباطناً.
ولكنهم حين يجتمعون ويدعون إلى الاجتماع يضبطون دعوتهم بضابطين، هما:
1.   الاجتماع على كلمة الحق.
2.   مراعاة ضوابط الخِلاف.

أولاً: الاجتماع على كلمة الحق
فبدون هذا القيد الضابط لا يكون اجتماع أصلاً، فضلاً عن أن يكون صحيحاً؛ ذلك أن الباطل وأهله في أمر مريج، لا يقرون على قرار، ولا يهتدون لأمرٍ سواء.
فسبب الاجتماع جمعُ الدين كله عِلماً وعَملاً، ونتيجته سعادة الدنيا والآخرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن سبب الاجتماع والألفة جمعُ الدين والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطناً وظاهراً، ... ونتيجة الجماعة: رحمة الله ورضوانه، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه".  (مجموع الفتاوى ج1، ص17).
قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [سورة آل عِمران – الآية 106].
وقال شيخ الإسلام: "فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تَفَرَّقَ القوم فَسَدوا وهَلَكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب". (مجموع الفتاوى ج3، ص421).
وقال: "فإنهم إذا اجتمعوا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين، فلا تكون طاعة الله بفعل لم يأمر الله به من اعتقاد أو قول أو عمل، فلو كان القول أو العمل الذي اجتمعوا عليه لم يأمر الله به، لم يكن ذلك طاعة لله ولا سبباً لرحمته".  (مجموع الفتاوى ج1، ص17).
فأهل السُنَّة مستمسكون بالجماعة، مُعْرِِضُون عن مواضع التفرق والاختلاف، ملتزمون بجمل الكتاب والسُنَّة والإجماع، بعيدون عن مواطن المتشابهات التي تُفَرِّق الجَمْع وتُشَتِّت الشمل؛ لأن الجماعة عندهم هي مناط النجاة في الدنيا والآخرة.
وهذا يشهد لصدقه واقع أهل البِدع والأهواء المجتمعين على الأصول البدعية؛ فإن فِرَقهم الكبرى انشعبت إلى ما لا يُحصى عَدَّاً مِن الفِرَق المتشاكسة المتعاكسة، وهذا ظاهر في الخوارج والروافض – مثلاً – فكل من هاتين الطائفتين افترقت إلى فرق كثيرة، بعد أن فارقوا الحق وتركوا الاجتماع عليه.
قال شيخ الإسلام: "والبدعة مقرونة بالفُرقة، كما أن السُنَّة مقرونة بالجماعة، فيُقال: أهل السُنَّة والجماعة، كما يُقال: أهل البدعة والفُرقة". (الاستقامة ج1، ص42).
وقال الشاطبي رحمه الله: "وقال جماعة من العلماء: أصول البدع أربعة، وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا، وهم: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة".  (الاعتصام ج2، ص220).
"وقد ذكر بعض المصنفين أن الروافض انقسموا إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأوصلهم بعضهم إلى ثلاثمائة".  (الملل والنحل للشهرستاني ج1، ص166).

ثانياً: مراعاة ضوابط الخلاف
كما أمر الله تعالى بالاجتماع والاعتصام فقد حذر ونهى عن الافتراق والابتداع، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [سورة الشورى – الآية 13]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا  تَتَّبِعُوا السُّبُلَ  فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام – الآية 153].
فحين يقع الخلاف العِلمي بين أهل السُنَّة يقع منضبطاً بضوابطه التي من أهمها الحرص على الوحدة والائتلاف، وصلاح ذات البَيْن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [سورة النساء – الآية 59]، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العِلمية والعَملية، مع بقاء الألفة والعِصمة وأخوة الدين".   (مجموع الفتاوى ج24، 132).
وهذا الأمر مُشاهَد ملموس في الخلاف الذي ينشأ بين أهل السُنَّة أنفسهم، وبين أهل السُنَّة وأهل البِدع، فأما ما يكون بينهم وبين بعضهم فكثير جداً، فقد وقع الخلاف بين الصحابة أنفسهم حول بعض مسائل العقيدة، ولكن لم تكن هذه المسائل من الأمهات والكليات في هذا الباب.
ومن الأمثلة على ذلك:
-       اختلافهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، هل وقعت أم لا؟  (مجموع الفتاوى ج3، ص386).
-       ومِن ذلك أيضاً: اختلافهم في أنه هل يكون للبدن في القبر عذاب أو نعيم دون الروح أم لا؟  (مجموع الفتاوى ج4، ص282، 283).
-       ومِن ذلك أيضاً: اختلافهم فيما يُوزَن يوم القيامة: هل هو العمل، أم صحائف العمل، ام العامِل نفسه أي صاحب العمل؟  (انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العِز ج2، ص608-613).
-       ومِن ذلك: اختلافهم في الفروع والأحكام الفقهية العملية وهو كثير مشهور.
وأما مواقفهم مع غيرهم ممن خالف في الأصول دون الفروع، فيجسده موقف ابن عباس مع الخوارج ورحمته بهم ونقاشه معهم، الذي كان سبباً في رجوع ألفين منهم إلى ساحة السُنَّة، وإلى طريق الجماعة.
وكذا إمام أهل السُنَّة الإمام أحمد في موقفه مِن مُخالفيه، وعبد العزيز الكناني، ولقد حذا حذوهم شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمهم الله جميعاً.
وهُم مع هذا كانوا أحرص الناس على جمع الكلمة ووحدة الصف وإصلاح ذات البَيْن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جِماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البَيْن، فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [سورة الأنفال – الآية 1]". (مجموع الفتاوى ج28، ص50).
ثم إنه من لوازم الاجتماع والدعوة إليه النهي عن الفرقة وأسبابها، قال الإمام القرطبي: "وقال ابن عباس رضي الله عنهما لسماك الحنفي: يا حنفي، الجماعة الجماعة، فإنما هلكت الأمم السابقة لتفرقها، أما سمعت الله عز وجل يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عِمران – الآية 103]". (تفسير القرطبي ج4، ص164).
قال ابن وهب: "سمعت مالكاً يقول: ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف مِن أهل الأهواء، مِن هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [سورة آل عِمران – الآية 106]، قال مالك: فأي كلام أبين مِن هذا؟ فرأيته يتأولها لأهل الأهواء، ورواه ابن القاسم وزاد: قال مالِك: إنما هذه الآية لأهل القِبلة".  (الاعتصام للشاطبي ج2، ص290).

كتبه: فضيلة الشيخ د. محمد يسري
كلية الشريعة جامعة الأزهر، ونائب رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
مِن كتاب: طريق الهداية، مباديء ومقدمات علم التوحيد عند أهل السُنَّة والجماعة.

20‏/05‏/2010

الرد على شُبُهات المُلْحِدين في نشأة الكون: القول بالمصادفة

بعد توضيح الدليل القرآني الذي يُخاطب العقول، ويُلزمها بالاعتراف بوجود الخالق المعبود، يبدو القول إن هذا الكون خُلِقَ مصادفة مِن غير خالق ليس قولاً بعيداً عن الصواب فحسب، بل قول بعيد عن المعقول يُدْخِل صاحبه في عداد المُخَرِّفين الذين فقدوا عقولهم أو كادوا، فهم يُكابرون في الدليل الذي لا يجد العقل بُدَّاً من التسليم به.
لقد وُجِدَ من يقول: "لو جلست سِتة مِن القِردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها بلايين السنين، فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبتها قصيدة من قصائد شكسبير؛ فكذلك الكون الموجود الآن، إنما وُجِدَ نتيجةً لعمليات عمياء ظلت تدور في المادة لبلايين السنين".
يقول وحيد الدين خان (كتاب الإسلام يتحدى ص66) بعد نقله لهذه الفقرة من كلام هكسلي (هو الكاتب المُلْحِد الذي كتب كتابه المعروفه "الإنسان يقوم وحده"، فسَخَّر الله له عالِماً من مِلَّتِه وهو أ. كريستي موريسون، رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك وعضو سابق في المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة، فسَطَّرَ كتابه القَيِّم "الإنسان لا يقوم وحده" رداً على هكسلي، وقد تُرْجِم هذا الكتاب تحت عنوان "العِلم يدعو إلى الإيمان"): إن أي كلام مِن هذا القبيل لغْوٌ مثير بكل ما تحويه هذه الكلمة من معانٍ، فإنَّ جميع علومنا تجهل – إلى يوم الناس هذا – أية مُصادفة أنتجت واقعاً عظيماً ذا روح عجيبة، في روعة الكون".
وينقل عن عالِم آخر إنكاره لهذه المقالة قوله: "إنَّ القول إن الحياة وُجِدَت نتيجة حادث اتفاقي شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة".
ويُقرر وحيد الدين خان: "أنَّ الرياضيات التي تُعطينا نُكتة المصادفة، هي نفسها التي تنفي أي إمكان رياضي في وجود الكون الحالي بفعل قانون المصادفة".
وخُذ هذا المثال الذي نقله وحيد الدين خان عن العالِم الأمريكي "كريستي موريسون" يُبَيِّن فيه استحالة القول بوجود الكون مصادفة.
قال: "لو تناولت عشرة دراهم وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة، ثم رميتها في جيبك وخلطتها جيداً، ثم حاولت أن تُخرج مِن الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي بحيث تُلقي كُل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى، فإمكان أن نتناول الدرهم المكتوب عليه واحد في المحاولة الأولى هو واحد في العشرة، وإمكان أن نُخْرِج الدراهم مِن 1-10 بالترتيب واحد في عشرة بلايين". (انظر العِلم يدعو إلى الإيمان ص51).
وعلى ذلك فكم يستغرق بناء هذا الكون لو نشأ بالمصادفة البحتة والاتفاق؟ إنَّ حساب ذلك بالطريقة نفسها يجعل هذا الاحتمال خيالياً يصعُب حسابه، فضلاً إن كل ما في الكون يحكي أنه إيجاد موجِد حكيم عليم خبير، ولكن الإنسان ظلوم جهول. قال الله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا} [سورة عَبَسَ : الآيات 17-29].
كيف يُمكِن أن تتأتى المصادفة في خلق الإنسان وتكوينه، وفي صُنع طعامه على هذا النحو المُقَدَّر الذي تتشارك فيه الأرض والسماء، وصدق الله في وصفه للإنسان {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [سورة الأحزاب : الآية 72].

كتبه: أ.د. عمر سليمان الأشقر
كلية الشريعة – الجامعة الأردنية
مِن كتاب: العقيدة في الله - العقيدة في ضوء الكتاب والسُنَّة

13‏/05‏/2010

حقيقة تأثير السِّحر والجن

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين،

زعم البعض أنه ليس للسحر تأثير حقيقي أو حِسِّي. وزعم البعض أيضاً أنه لا اتصال بين عالم الجن والإنس، وأنه لا يمكن للجن أن يؤثر في عالم الإنس.
وهذا مما نقل أهل العِلم خِلافه، بل إن من السِّحر ما قد يُؤثر في الأنفس أو في الأبدان، ومنه ما قد يكون من باب الحِيل والخداع.

ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحِر له وتأذى من ذلك.
روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زُرَيْق، يُقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا ، ثم قال: "يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رِجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طَبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، وجف طلع نخلة ذكر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان". فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: "يا عائشة، كأن ماءها نقاعة الحناء، أو كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين". قلت: يا رسول الله، أفلا استخرجته؟ قال: "قد عافاني الله، فكرهت أن أثور على الناس فيه شرا". فأمر بها فدُفِنَت.
(صحيح البخاري 5763-5765-5766).

ولا يُقال: إن سحر الرسول صلى الله عليه وسلم يوجب له لبساً في النبوة والرسالة؛ لأن أثر السحر لم يتجاوز ظاهر الجسم الشريف، فلم يصل إلى القلب والعقل. فهو كسائر الأمراض التي قد تعرِض له، والتشريع محفوظ بحفظ الله تعالى، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحِجْر – الآية 9].
(عالم الجن والشياطين ص113: من سلسلة العقيدة في ضوء الكتاب والسنة – د. عمر سليمان الأشقر).

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لسورة الفلق:
وقوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضَّحاك: يعني السواحر – قال مُجاهد: إذا رقين ونفثن في العقد. وروى ابن جرير عن ابن طاوس عن أبيه قال: ما من شيء أقرب من الشرك من رقية الحية والمجانين.  وفي الحديث الآخر: أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشتكيت يا محمد؟ فقال: نعم. فقال: باسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك ومن شر كل حاسد وعين، الله يشفيك.(رواه مسلم 40/2186).
ولعل هذا من شكواه عليه السلام حين سُحِر، ثم عافاه الله وشفاه، ورد كيد السحرة الحُسَّاد من اليهود في رؤوسهم، وجعل تدميرهم في تدبيرهم، وفضحهم، ولكن مع هذا لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الدهر، بل كفى الله وشفى وعافى.
ثم أورد ابن كثير حديث السحر الذي وقع لرسول الله عليه الصلاة والسلام، السابق ذكره.

وعن عِمران بن حصين رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تطير أو تُطُيِّر له، أو تَكَهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له، ومن عقد عقدة، أو قال: عقد عقدة، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد. (السلسلة الصحيحة للألباني 6/311).

وأهل السُنة يؤمنون بالسحر ويثبتون وقوعه، بخلاف المعتزلة.
قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ  النَّاسَ السِّحْرَ  وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} سورة البقرة – الآية 102
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية:
حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر، قال: وربما كَفَّروا من اعتقد وجوده.
والنفع والضر لا يكون إلا بإذن الله، سواء كان السبب السحر أو غيره.

وكما أن للسحر تأثيراً على النفوس والأبدان، فللرقية الشرعية أيضاً مثل ذلك.
روى البخاري في صحيحه: أن رهطاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة سافروها، حتى نزلوا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلُدِغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين قد نزلوا بكم، لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لُدِغ، فسعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فهل عند أحد منكم شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لراق، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جُعلا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق فجعل يتفل ويقرأ: {الحمد لله رب العالمين}. حتى لكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي ما به قلبة، قال : فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسِموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له، فقال: "وما يدريك أنها رقية؟ أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم بسهم.
(صحيح البخاري 5749).
قال ابن القيم في تعليقه على هذا الحديث:
ولكن ها هنا أمرٌ ينبغي التفطن له، وهو أن الأذكار والآيات والأدعية التي يُستشفى بها ويُرقى بها، هي في نفسها نافعةٌ شافية، ولكن تستدعي قبول المَحَل، وقوه هِمة الفاعِل؛ وتأثيره. فمتى تخلف الشفاء كان كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم قبول المحل المنفعل، أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينفع فيه الدواء؛ كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء، وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثره، فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول، وكذلك القلب إذا أخذ الرُقى والتعاويذ بقبول تام، وكان للراقي نفسٌ فَعَّالة وهِمَّة مؤثرة، أَثَّر في إزالة الداء.
(الداء والدواء ص14).

أما ما يتعلق بإمكان تأثير بعض الجن في عالم الإنس، فهذا مما هو ثابت بالأدلة.
فقد سخر الله الجن لنبيه سليمان عليه السلام، فكانوا يصنعون له التماثيل والمحاريب وغيرها.
قال الله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سورة سبا – الآيات 12 و13].
بل وقد استمع بعض الجن لتلاوة رسول الله عليه الصلاة والسلام لآيات من القرآن، فتأثروا بها وآمنوا برسالته، وانطلقوا يبلغون قومهم من الجن ما سمعوه.
قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [سورة الأحقاف – الآية 29].

وقصة أبو هريرة رضي الله عنه مع الشيطان الذي تمثل له في هيئة رجل فقير يُحتج بها في ذلك الباب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟" قال : قلت : يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: "أما إنه قد كذبك، وسيعود". فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيعود". فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أباهريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله، قال: "أما إنه كذبك، وسيعود". فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: "ما هي". قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة". قال: لا، قال: "ذاك شيطان".
(صحيح البخاري 2311).

وقال الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [سورة الجن – الآية 6].
يخبرون بخبر عجيب وهو أنه كام رجال من الناس من العرب وغيرهم إذا نزلوا منزلاً مخوفاً في وادٍ او شعب يستعيذون برجال من الجن، كأن يقول الرجل: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. فزاد الإنسَ الجنُ بهذا اللجأ إليهم والاحتماء بهم رهقاً، أي إثماً وطغياناً (الرهق: الخطيئة والإثم وغشيان المحارم، وباستعاذة الإنس بالجن يحصل الإثم والخطيئة)، إذ كانوا يطمعون أن الإنس تعظمهم هذا التعظيم حتى تستجير بهم.
(أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير – أبو بكر الجزائري). وللاستزادة، يُرجى الرجوع لتفسير ابن كثير لهذه الآية.

وفي الحديث أن الشيطان يؤذي الوليد حين ولادته.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولَد غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن الحجاب".
(صحيح البخاري 3286).

والأمراض التي تصيب الإنسان، منها ما قد يكون بسبب الجن، ومنها ما قد يكون لأي سبب آخر.
روى الحاكم في مستدركه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الطاعون وخز أعدائكم من الجن، وهو لكم شهادة".
(انظر إرواء الغليل ج6، ص70).

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحله أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

كتبه: حاتم الحاجري