30‏/05‏/2010

أهل السُنَّة أحرص الناس على الاجتماع والائتلاف، وأبعد الناس عن الافتراق والاختلاف

إن اعتصام أهل السُنة بالجماعة من أهم أركان منهجهم المبارك.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عِمران – الآية 103].
قال ابن جرير الطبري: "يُريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدينِ اللهَ الذي أمركم به، وعَهْدِهِ الذي عَهِدَهُ إليكم في كتابه إليكم؛ مِن الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله". (تفسير الطبري ج4، ص30).
وروى ابن جرير الطبري بأسانيده إلى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في تفسير "حبل الله" في قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [سورة آل عِمران – الآية 103]: "الجماعة". (تفسير الطبري ج4، ص30)، ومثل هذا نقله القرطبي عنه في التفسير. (تفسير الطبري ج4، ص159).
وذكر ابن جرير أقوالاً أخرى عن السلف في تفسير معنى حبل الله، منها: القرآن، والإخلاص لله وحده، والإسلام. (تفسير الطبري ج4، ص30، 31).
وقال الشوكاني في نفس الآية: "أمر الله أن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام أو بالقرآن، ونهاهم عن التفرق الناشيء عن الاختلاف في الدين". (فتح القدير ج1، ص367).
"وهذه الأقوال مؤداها واحد ونتيجتها واحدة، فإن الاعتصام بالقرآن، والإخلاص لله وحده، والتمسك بالإسلام الصحيح الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كلها مما ينتج عنه تآلف المسلمين واجتماعهم وترابطهم، وتماسك مجتمعهم".  (وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق – د. جمال بادي ص19، 20).
قال ابن القيم رحمه الله في حقيقة هذا الاعتصام: "وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم، ومعقولاتهم، وأذواقهم، وكشوفاتهم، ومواجيدهم؛ فمن لم يكن كذلك فهو مُنْسَلٌّ من هذا الاعتصام، فالدين كله في الاعتصام به وبحبله، عِلماً وعَملاً، وإخلاصاً واستعانةً، ومُتابعةً، واستمراراً على ذلك إلى يوم القيامة".  (مدارج السالكين ج3، ص323).
قال ابن المبارك:
إن الجماعة حبلُ الله فاعتصموا         مِنه بعروته الوثقى لمن دانا
(انظر تفسير القرطبي ج4، ص159).
فأهل السُنَّة على الحقيقة هم أهل الجماعة والاجتماع، مع الحرص على ذلك والتواصي به ظاهراً وباطناً.
ولكنهم حين يجتمعون ويدعون إلى الاجتماع يضبطون دعوتهم بضابطين، هما:
1.   الاجتماع على كلمة الحق.
2.   مراعاة ضوابط الخِلاف.

أولاً: الاجتماع على كلمة الحق
فبدون هذا القيد الضابط لا يكون اجتماع أصلاً، فضلاً عن أن يكون صحيحاً؛ ذلك أن الباطل وأهله في أمر مريج، لا يقرون على قرار، ولا يهتدون لأمرٍ سواء.
فسبب الاجتماع جمعُ الدين كله عِلماً وعَملاً، ونتيجته سعادة الدنيا والآخرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن سبب الاجتماع والألفة جمعُ الدين والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطناً وظاهراً، ... ونتيجة الجماعة: رحمة الله ورضوانه، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه".  (مجموع الفتاوى ج1، ص17).
قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [سورة آل عِمران – الآية 106].
وقال شيخ الإسلام: "فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تَفَرَّقَ القوم فَسَدوا وهَلَكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب". (مجموع الفتاوى ج3، ص421).
وقال: "فإنهم إذا اجتمعوا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين، فلا تكون طاعة الله بفعل لم يأمر الله به من اعتقاد أو قول أو عمل، فلو كان القول أو العمل الذي اجتمعوا عليه لم يأمر الله به، لم يكن ذلك طاعة لله ولا سبباً لرحمته".  (مجموع الفتاوى ج1، ص17).
فأهل السُنَّة مستمسكون بالجماعة، مُعْرِِضُون عن مواضع التفرق والاختلاف، ملتزمون بجمل الكتاب والسُنَّة والإجماع، بعيدون عن مواطن المتشابهات التي تُفَرِّق الجَمْع وتُشَتِّت الشمل؛ لأن الجماعة عندهم هي مناط النجاة في الدنيا والآخرة.
وهذا يشهد لصدقه واقع أهل البِدع والأهواء المجتمعين على الأصول البدعية؛ فإن فِرَقهم الكبرى انشعبت إلى ما لا يُحصى عَدَّاً مِن الفِرَق المتشاكسة المتعاكسة، وهذا ظاهر في الخوارج والروافض – مثلاً – فكل من هاتين الطائفتين افترقت إلى فرق كثيرة، بعد أن فارقوا الحق وتركوا الاجتماع عليه.
قال شيخ الإسلام: "والبدعة مقرونة بالفُرقة، كما أن السُنَّة مقرونة بالجماعة، فيُقال: أهل السُنَّة والجماعة، كما يُقال: أهل البدعة والفُرقة". (الاستقامة ج1، ص42).
وقال الشاطبي رحمه الله: "وقال جماعة من العلماء: أصول البدع أربعة، وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا، وهم: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة".  (الاعتصام ج2، ص220).
"وقد ذكر بعض المصنفين أن الروافض انقسموا إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأوصلهم بعضهم إلى ثلاثمائة".  (الملل والنحل للشهرستاني ج1، ص166).

ثانياً: مراعاة ضوابط الخلاف
كما أمر الله تعالى بالاجتماع والاعتصام فقد حذر ونهى عن الافتراق والابتداع، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [سورة الشورى – الآية 13]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا  تَتَّبِعُوا السُّبُلَ  فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام – الآية 153].
فحين يقع الخلاف العِلمي بين أهل السُنَّة يقع منضبطاً بضوابطه التي من أهمها الحرص على الوحدة والائتلاف، وصلاح ذات البَيْن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [سورة النساء – الآية 59]، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العِلمية والعَملية، مع بقاء الألفة والعِصمة وأخوة الدين".   (مجموع الفتاوى ج24، 132).
وهذا الأمر مُشاهَد ملموس في الخلاف الذي ينشأ بين أهل السُنَّة أنفسهم، وبين أهل السُنَّة وأهل البِدع، فأما ما يكون بينهم وبين بعضهم فكثير جداً، فقد وقع الخلاف بين الصحابة أنفسهم حول بعض مسائل العقيدة، ولكن لم تكن هذه المسائل من الأمهات والكليات في هذا الباب.
ومن الأمثلة على ذلك:
-       اختلافهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، هل وقعت أم لا؟  (مجموع الفتاوى ج3، ص386).
-       ومِن ذلك أيضاً: اختلافهم في أنه هل يكون للبدن في القبر عذاب أو نعيم دون الروح أم لا؟  (مجموع الفتاوى ج4، ص282، 283).
-       ومِن ذلك أيضاً: اختلافهم فيما يُوزَن يوم القيامة: هل هو العمل، أم صحائف العمل، ام العامِل نفسه أي صاحب العمل؟  (انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العِز ج2، ص608-613).
-       ومِن ذلك: اختلافهم في الفروع والأحكام الفقهية العملية وهو كثير مشهور.
وأما مواقفهم مع غيرهم ممن خالف في الأصول دون الفروع، فيجسده موقف ابن عباس مع الخوارج ورحمته بهم ونقاشه معهم، الذي كان سبباً في رجوع ألفين منهم إلى ساحة السُنَّة، وإلى طريق الجماعة.
وكذا إمام أهل السُنَّة الإمام أحمد في موقفه مِن مُخالفيه، وعبد العزيز الكناني، ولقد حذا حذوهم شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمهم الله جميعاً.
وهُم مع هذا كانوا أحرص الناس على جمع الكلمة ووحدة الصف وإصلاح ذات البَيْن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جِماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البَيْن، فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [سورة الأنفال – الآية 1]". (مجموع الفتاوى ج28، ص50).
ثم إنه من لوازم الاجتماع والدعوة إليه النهي عن الفرقة وأسبابها، قال الإمام القرطبي: "وقال ابن عباس رضي الله عنهما لسماك الحنفي: يا حنفي، الجماعة الجماعة، فإنما هلكت الأمم السابقة لتفرقها، أما سمعت الله عز وجل يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عِمران – الآية 103]". (تفسير القرطبي ج4، ص164).
قال ابن وهب: "سمعت مالكاً يقول: ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف مِن أهل الأهواء، مِن هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [سورة آل عِمران – الآية 106]، قال مالك: فأي كلام أبين مِن هذا؟ فرأيته يتأولها لأهل الأهواء، ورواه ابن القاسم وزاد: قال مالِك: إنما هذه الآية لأهل القِبلة".  (الاعتصام للشاطبي ج2، ص290).

كتبه: فضيلة الشيخ د. محمد يسري
كلية الشريعة جامعة الأزهر، ونائب رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
مِن كتاب: طريق الهداية، مباديء ومقدمات علم التوحيد عند أهل السُنَّة والجماعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق