عجبتُ للهجوم الشديد هذه الأيام على النقاب، وزَعْم بعض أعضاء المؤسسة الدينية الرسمية ممثلةً في الأزهر ووزارة الأوقاف- وعلى رأسهم شيخ الأزهر ووزير الأوقاف- على أن النقاب ليس من الدين وأن هذا إجماع العلماء، وتابعهم في ذلك الكثير من الكُتاب وقليلي العلم. ولا أعلم حقيقةً كيف يجرؤ هؤلاء على هذا القول الباطل.
ومِن المعلوم أن مشروعية النقاب من المسائل المستقرة عند المسلمين منذ أكثر من ألف عام، ولم يقل أحدٌ قط من أهل العلم أن النقاب ليس من الدين وأنه عادة وليس عبادة. بل الخلاف المشهور بين الفقهاء عبر العصور في مسألة تغطية المرأة المسلمة وجهها ينحصر في فريقين؛ فريق يرى أن الوجه والكفين للمرأة ليسا بعورة وأن سترهما مستحب وليس بواجب في حالة أمن الفتنة، والفريق الآخر يرى أن جميع بدن المرأة عورة ويجب عليها ستر الوجه والكفين. وكل من الفريقين له أدلته المعتبرة والخلاف بينهما سائغ ويجب احترام قول كل فريق منهما وعدم إنكار أي من الفريقين على الآخر.
ومن المعروف عند علماء الأصول أن الوجوب والاستحباب من الأحكام التكليفية الخمسة، وأن أمور العبادات إما أن تكون واجبة؛ أي أن الشارع طلب فعلها على سبيل الجزم فيؤجر فاعلها ويأثم تاركها، وإما أن تكون مستحبة، أي لم يطلب الشارع فعلها على سبيل الجزم فيؤجر فاعلها ولا يأثم تاركها. ومن أمور العبادات ما قد يكون ممنوعاً محظوراً كالبدع المحدثة في الدين التي لم يرد بها دليل شرعي، وفي هذه الحالة لا يصح نسبتها إلى الدين أو الاعتقاد بأنها من العبادات، وفي هذه الحالة يأثم فاعلها. إذن فتغطية المرأة وجهها أمر مشروع ومِن الدين عند الفريقين، وتُؤْجَر بإذن الله على فعله المرأة المسلمة في كلتا الحالتين ولا تأثم عليه.
وهذا يُعَّد إجماعاً على مشروعية النقاب وأنه ليس بعادة. ويتبين من هذا أن الخلاف بين العلماء ينحصر في الوجوب أو الاستحباب فقط ولم يقل بغير هذا أحد من أهل العلم من قبل.
وهذه بعض أقوال أهل العلم في تفسير الآية 59 من سورة الأحزاب، التي يُستدل بها على أن النقاب مشروع، أي من الدين:
قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [سورة الأحزاب - الآية 59]
· قال الإمام بن جرير الطبري: "فقال بعضهم: هو أن يُغطين وجوههن ورؤوسهن، فلا يُبدين منهن إلا عيناً واحدة" ثم نقل أدلة من قال ذلك كعبد الله بن عباس رضي الله عنهما ومحمد بن سيرين، ثم قال رحمه الله: "وقال آخرون: بل أُمِرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن" ونقل أيضاً أدلة من قال ذلك كقتادة ومجاهد.
"جامع البيان عن تأويل آي القرآن" ج22 ص45-47.
· قال الإمام أبي بكر الجصاص (وهو من أئمة الحنفية): في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين.
"أحكام القرآن" ج3 ص371-372.
· قال الزمخشري: يغَُطِين وُجُوهَهُن وأعطافهن.
"الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" ج3 ص274.
· قال القاضي أبو بكر بن العربي (وهو من أئمة المالكية): قيل معناه تُغطي به رأسها فوق خمارها، وقيل تُغطي به وجهها حتى لا يظهر منها إلا عينها اليسرى.
"أحكام القرآن" ج3 ص1585-1587.
· قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي: قال ابن قُتيبة: يلبس الأردية، وقال غيره: يُغطين رؤوسهن ووجوههن ليُعلم أنهن حرائر.
"زاد المسير في علم التفسير" ج6 ص422.
· قال الإمام فخر الرازي: يمكن أن يقال: المراد أنهن لا يزنين، لأن من تستر وجهها – مع أنه ليس بعورة لا يُطمع فيها أنها تكشف عورتها، فيُعرفن أنهن مستورات، لا يمكن طلب الزنا منهن.
"مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)" ج6 ص591.
· قال الإمام أبو عبد الله القرطبي: الجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء، وقد قيل إنه القناع، والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن. وقال أيضاً: وقد قيل إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء.
"الجامع لأحكام القرآن" ج14 ص423-244.
· قال الإمام القاضي البيضاوي (وهو من أئمة الشافعية): يُغطين وجوههن وأبدانهن بملافحهن إذا برزن لحاجة.
"أنوار التنزيل وأسرار التأويل" ج2 ص280.
· قال الإمام عبد الله النسفي (وهو من أئمة الحنفية): يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن.
"مدارك التنزيل وحقائق التأويل" ج3 ص79.
· قال الحافظ جلال الدين السيوطي:جلابيبهن جمع جلباب وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة، أي يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عيناً واحدة.
"تفسير الجلالين" لجلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي ص457.
· ونقل القول بالوجوب أيضاً في تفسير هذه الآية: الإمام البغوي في تفسيره "معالم التنزيل"، والخازن في "لُباب التأويل في معالم التنزيل"، وغيرهم.
وغيرها كثير من أقول أهل العلم في تفسير هذه الآية وغيرها من الآيات (كالآية 31 من سورة النور فارجع إليها).
وقال الشيخ عبد الرحمن الجزيري في كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة" ج1 ص155-156، مبحث ستر العورة خارج الصلاة، كتاب الصلاة: أما إذا كانت بحضرة رجل أجنبي أو إمرأة غير مسلمة فعورتها جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين فإنهما ليسا بعورة، فيحل النظر لهما عند أمن الفتنة. ثم قال: الشافعية قالوا إن وجه المرأة وكفيها عورة بالنسبة للرجل الأجنبي، أما بالنسبة للكافرة فإنهما ليسا بعورة.
وأنا لا أعلم كيف يتم إخفاء أقوال هؤلاء الأئمة والتغاضي عنها وتجاهلها كأنها غير موجودة وكأن النقاب بدعة محدثة نشأت مؤخراً. هل نُحسِن الظن بمن يدَّعوا أن النقاب بدعة ونقول أنهم جهلاء ولم يقرأوا أياً من كتب الفقه أو التفسير وبالتالي لم يعلموا بمشروعية النقاب؟ أم أنهم علموا الحكم الشرعي ولكنهم لسبب ما في أنفسهم لم ينقلوا تلك الأقوال وتجاهلوها وجاءوا بقولٍ جديد مخترع لم يسبقهم إليه أحد وهو أن النقاب ليس من الدين؟ فإما الجهل وإما غياب الأمانة العلمية والتلبيس على الناس، وفي كلتا الحالتين لا ينبغي أن يُسمح لهؤلاء بالتكلم باسم الدين.
بل ومن العجيب أن د. محمد سيد طنطاوي نقل مشروعية تغطية المرأة وجهها في تفسير سورة النور الآية 31 وتفسير سورة الأحزاب الآية 59، وذلك في تفسيره المسمى بـ"التفسير الوسيط".
ومن العجيب أن حُكم مشروعية النقاب موجود في كتب التفسير والفقه التي تدرس حالياً بالأزهر الشريف.
وقَوْل شيخ الأزهر، أو غيره، ليس بحُجة ولا يجوز الأخذ به إن خالف قوله النصوص الشرعية وإجماع علماء المسلمين عبر العصور، والمنصب لا يعصم صاحبه من الخطأ ولا الزلل، وإنما كل إنسان يؤخذ من قوله ويُرَد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل إن الأئمة الأربعة وغيرهم نهوا عن الأخذ بأقوالهم إن تبين لأحد من بعدهم مخالفة أقوالهم للدليل.
وأنا أريد أن أسأل بعض الأسئلة:
لمصلحة من الهجوم على النقاب ومحاربة من تريد الالتزام بتعاليم دينها؟ سواء كانت المرأة المسلمة تأخذ بقول من يرى الوجوب أو أخذت بقول من يرى الاستحباب.
ولمصلحة من إثارة الشبهات وزعزة ثقة المسلمين في ثوابت دينهم المستقرة عند علماء الأمة منذ زمن طويل؟
ولمصلحة من التلبيس على الناس وإخفاء أقوال جُل أئمة المسلمين في مسألة مشروعية النقاب؟
أليس من الأولى لشيخ الأزهر ووزارة الأوقاف ومن جرى على قولهم الالتفات إلى المشاكل المستعصية التي تواجه واقع المسلمين اليوم في كل مكان؟
أليس من الأولى مواجهة السفور والعُري الذي انتشر في شوارعنا وجامعتنا والقرى السياحية، وعلى شاشات الفضائيات؟ بدلاً من إنفاق الملايين على كتاب لمحاربة النقاب؟
أليس من الأولى محاربة الخرافات والبدع والشركيات التي تنتشر في الموالد وعند الأضرحة والقبور؟
أليس من الأولى مواجهة الهجمات الشرسة على الإسلام، خارجياً من الغرب وداخلياً من العلمانيين؟
أليس من واجب شيخ الأزهر إصلاح الأزهر، ذلك الحصن المنيع، الذي فقد، وللأسف الشديد، الكثير من دوره وهييبته؟
أسأل الله أن يعيد للأزهر مجده وأن يجعله غصة في حلق أعداء الإسلام.
وأنا أخشى أن يأتي اليوم وتصبح بلادنا الحبيبة كتونس وتركيا، حيث يحارب الحجاب وتُحارَب حتى من تغطي شعرها. فعلى سبيل المثال يقول وزير الشئون الدينية التونسي بأن الحجاب زي طائفي دخيل على التقاليد التونسية، وأنه صورة من صور النشاز!!، فهذا كلام أكبر مسؤول عن الشئون الدينية هناك. وإنكار مشروعية النقاب هي خطوة عملية نحو هذا الطريق المظلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتنقضن عُرى الإسلام عُروة عروة، فكلما انتقضت عروة، تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، و أخرهن الصلاة". رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع – 5075.
فعلى كل من يهاجم النقاب أن يتقي الله ويعلم أنه ملاقيه وسيسأله الله عن كل ما قال وعمل يوم لا ينفع مال ولا سلطان ولا منصب ولا جاه.
وأخيراً: أنا أرجو ممن يقرأ هذا المقال أن يُبين ما عَلِم من الحق ولا يكتمه، فالأمر جد خطير ومسؤلية هذا الدين في أعناقنا جميعاً.
قال الله تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ" [سورة آل عِمران – الآية 187].
الهم بلغت الهم فاشهد.
الهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
كتبه: حاتم الحاجري