25‏/01‏/2010

نشأةُ عِلْمِ الحديثِ وتدوينُه

عَصْرُ الصحابةِ:
انقضى عصرُ الخُلفاءِ الراشدينَ – رضيَ اللهُ عنهم – ولم يَكتُبِ المُسلمونَ مِن حديثِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم شيئاً يُذيعونهُ بينَ الناسِ إلا القليلَ، إلا ما كانَ مِن عبدِ اللهِ بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -؛ فقدْ كتبَ لنفسِهِ شيئاً كثيراً.
روى البُخاريُ عن أبي هُرَيْرَةَ - رضيَ اللهُ عنهُ -، قال: ما مِن أحدٍ مِن أصحاب النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم أكثرُ حديثاً عنهُ مِنِّي، إلا ما كان مِن عبدِ اللهُ بن عمروٍ، فإنه كان يكتب ولا أكتب.
ولكنهم – مع ذلك – صَرَفوا هِممهم إلى نشرِ الحديثِ بطريق الرواية: إما بنفسِ الألفاظِ التي سَمِعوها مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم – إن بقيت عالقةً في أذهانِهم – وإما بما يؤدي معناها مِن ألفاظٍ غيرِها – إن غابت ألفاظُهُ عنهم -.
ووهبهم اللهُ عزَّ وجلَّ صبراً على طلبِ الحديثِ عن أهلِهِ، مع حافِظةٍ واعيةٍ، ونفسٍ صافيةٍ، وذِهنٍ وَقَّادٍ يصلُ إلى تَبَيُّنِ المُرادَ مِن الكلامِ ويعي ما يُلقى إليه.
وإن قوماً انحدرتْ نُطَفُهُم مِن أصلابِ رجالٍ حَفِظوا أشعارَ شُعرائِهِم، ووعتها صدورُهُم مِن غير أن يُقَيِّدوها بالكتابة – إلا ما كانَ يَحْدُثُ في النَّدْرةِ – لَخَليقُونَ أن يحفظوا حديثَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، وهو الذي ملأَ نُفُوسَهُم عَظَمَةً فَأَكْبروهُ، وأَجَلُّوهُ، وفَدَوْهُ بالأنْفُسِ والأموالِ.

عَصْرُ التابعين:
على هذا انقضى عصرُ الخُلفاءِ الراشِدينَ، بل عصرُ الصحابةِ كُلِّهِم أجمعين، فلما كانَ على رأس المائةِ الثانيةِ مِن هِجرةِ النبي صلى اللهُ عليهِ وسلم، وفي عهدِ أميرِ المؤمنينَ عُمَرَ بن عبدِ العزيزِ بنُ مروان – رضي الله عنه -، خافَ أهلُ البصرِ – وعلى رأسِهِم أميرُ المؤمنينَ – دُروسِ العِلمِ بِمَوْتِ أهلهِ، فكتبَ عُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ إلى أبي بكرِ بنِ حزمٍ: انظر ما كان مِن حديثِ الرسول صلى اللهُ عليهِ وسلم فاكتُبهُ، فإني خِفْتُ دُروسَ العِلمِ وذهابَ العُلماءِ. رواه البُخاري في صحيحه.
وكان العُلماءُ والصحابةُ يتحرجونَ مِن كتابةِ حديثِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم مخافةً أن يختلطَ عندَ النَّاسِ بالقُرآنِ، فقد كانَ المُسلِمونََ في أولِ العهدِ به. ولكن عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – قد أَمِنَ ما خافَ السَّلَفُ مِن قبلِهِ؛ لاستقرار الناسُ على مصاحِفِ عُثمانَ بن عَفان رضي اللهُ عنهُ.
وكانَ ما كتبهُ إلى بن حزمٍ أَوَّلَ بداءةِ التفكيرِ في جمعِ المحفوظِ مِن حديثِ رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلم، ثُمَّ أَمَرَ مُحَمَّدَ بنَ شِهابٍ الزُهْرِيَّ بكتابتِهِ؛ فكانَ أَوَّلَ مَن كَتَبَ شيئاً مِن الحديثِ.

عَصْرُ أتباعِ التابعين:
ثُمَّ جاءَ مِن بَعدِ ذَلِكَ طَبَقَةٌ مِن العُلماءِ في عَصرٍ واحِدٍ، (لا يعلمُ أهلُ الفنِّ أيُّهُم أسبقُ إخوانِه)، فَصَنَّفَ كُلُ واحِدٍ منهم كِتاباً جَمَعَ فيهِ أبواباً مِنَ الحديثِ ممزوجةٍ بأقوالِ الصحابةِ وفتاوى التابعينَ.
مِن هؤلاءِ العُلماءِ: الإمامُ عبدُ المَلِكِ بن عبدِ العزيزِ بن جُرَيْجٍ (في مكة)، وهُشَيْمٌ بنُ بَشِيرٍ (بِواسِط)، والإمام مالك أومُحَمَّد بن إسحقَ (بالمدينة)، ومَعْمَرُ بن راشِدٍ (باليَمَن)، وعبدُ اللهِ بنُ المُبارَكِ المَرْزَوِيُّ (بِخُراسان)، والرَّبيعُ بنُ صَبِيحٍ أو سعيدُ بن أبي عَرُوبة أو حَمَّادُ بن سَلَمَةَ (بالبَصْرة)، وسُفيانُ الثَّوْرِيُّ (بالكُوفَة)، والأوزاعِيُّ (بالشَّام)، وجَريرِ بن عبدِ الحميدِ (بالرَّيِّ)، وغير هؤلاء.

عَصْرُ تَبَعِ أتباعِ التابعين وما بعدَهُ:
ثُمَّ جاء مِن بعدِ ذَلِكَ طبقةٌ أُخرى مِن العُلماء، صَنَّفوا كُتُباً في الحديثِ، مُجَرَّدَةٍ عَن أقوالِ الصحابةِ وفتاوى التابعينَ، وسلكوا في ذَلِكَ طريقَتَين:
-      إحداهما: التصنيف على "الأبواب"، وهو تخريجُهُ على أحكامِ الفِقهِ وغيرها، وتنويعُهُ أنواعاً، وجَمْعُ ما وَرَدَ في كُلِّ حُكمٍ وكُلِّ نَوعٍ؛ في بابٍ فبابٍ.
ومِن أشهرِ هذهِ الكُتُبِ: الكُتُبُ الخمسةُ الأصولُ (التي هي: الصحيحان، وسُنَنُ أبي داوُدَ، وسُنَنُ النَّسَائِيِّ، وجامِعُ التِّرْمِذِيِّ.
-      والثانية: تصنيفُهُ على "المسانيد"، وجَمْعُ حديثِ كلِّ صحابيِّ وحدهُ، وإن اختلفت أنواعُهُ.
ومِن أشهر هذه المسانيد: مُسْنَدُ الإمامِ أحمدَ بن حنبلٍ، ومُسْنَدُ أبي داوُدَ الطَّيالِسِيِّ، ومُسْنَدُ إسْحَقَ بن رَاهَوَيه، ومُسْنَدُ عبدِ بن حُمَيدٍ، وغيرُها.
إلا أن العُلماءَ في هذه الطبقةِ (عدا الشيخَيْنِ) وفي الطبقات السابقةِ لم يُجَرِّدوا الصحيحَ عن غَيرِهِ، بل جَمَعُوا ما يَصِحُّ وما لا يَصِحُّ في مُصَنَّفٍ واحدٍ.
ثُمَّ جاءَ فارِسا الحَلَبَةِ، والسَّابِقانِ في هذا المِضمارِ، إماما المُحَدِّثِينَ، وقُدْوَتا المُصَنِّفينَ: الإمامُ مُحَمَّدُ بن إسماعيلَ البُخَارِيُّ، وتِلْمِيذُهُ الإِمامُ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ؛ فصَنَّفا كِتابَيْهِما اللذَيْنِ عَلَيهِما مَدارُ الفِقْهِ الإسلامِيِّ، وجَرَّدَا فيهِما صِحاحَ الأحادِيثِ؛ فكانا بذلك العمل أَوَّلَ مَن صَنَّفَ في الصَّحيحِ المُجَرَّدِ عن غيرِهِ.
ثُمَّ سارَ العُلماءُ بعدَ ذلك على هذا الطريقِ، فأكثروا مِن التصنيفِ بالطريقتين، وقَصَدَ بعضُهُم أيضاً إلى تجريدِ الصحيحِِ – كما فَعَلَ الشيخانِ-، ومِن هؤلاء الذين قصدوا إلى تجريده:
الإمام ابن خُزَيْمَةَ، والإمام ابن حِبَّانَ، والإمام أبو عبد اللهِ الحاكِم النيسابوري؛ إلا أنهم وَقَعَ لهُم تساهلٌ في التصحيحِ ممعروفٌ، إلا أنَّ ابن خُزَيْمةَ أَقَلُّ الثلاثةِ تساهلاً، يليهُ ابنُ حِبَّانَ، يليه الحاكِم النيسابوري.

كتبه: فضيلة الشيخ أبو مُعاذ طارق بن عِوَضِ الله
مِن كِتاب: تقريبُ عِلمِ الحديث – المُستوى الأول

16‏/01‏/2010

حاجة الإنسان إلى الدين والعقيدة

دعوى استغناء الإنسان عن العقيدة دعوى باطلة يُكذبها الواقع، ويُبطلها تاريخ البشرية الطويل، إذ واقع البشرية شاهد على أن الإنسان حيثما كان وفي أي ظروف وُجِد، وعلى اختلاف أحواله وتباين ظروفه لا يخلو من عقيدة أبداً.
وسواء كانت العقيدة حقاً أو باطلاً، صحيحةً أو فاسدةً، حتى الذين يَدَّعون اليوم أن العِلم قد أغنى عن العقيدة وعن التدين، وأن الإنسان في عصر الذَرة وغزو الفضاء لم يُصبح في حاجة إلى الإيمان بالله تعالى، وبالغوا في الكُفر والإنكار، وقالوا: إن الإنسان في الظروف الصعبة التي كان يعيشها والمخاوف التي تنتابه من كل ما حوله من مظاهر الكون إذ هو يخاف المرض ويخاف الفقر ويخاف الرعد والبرق والفيضان والسيول والعواصف والزلازل وحتى الحيوانات، اضطر لأجل ذلك إلى الإيمان بقوة ذات قُدرة لا تعجز، وسلطان لا يُغلَب أو يُقهر، سَمَّاها إلهاً يفزع إليه عند الشدائد ويتقرب إليه بالعبادات ليدفع عنه الشرور ويقيه من المهالك. لهذا قالوا: إن الإنسان هو الذي خلق الإله وليس الإله هو الذي خلق الإنسان. وهو قولٌ مُضحِك، وجهلٌ فاضح، وكُفرٌ صريح، وكذبٌ ممقوت، ومُغالطةٌ مكشوفة، وسُخف عقول لا حد له.
إن الإنسان دائماً في حاجة إلى الإيمان والتَّدَيُّن والعقيدة، وإن الدين ضرورة من ضرورات حياته، وحاجة من حاجات نفسه، فلا غِنى له عن الإيمان بربه وعن عِبادته بحال من الأحوال، ومِن هُنا لم تخل أُمة وُجِدَت على وجه الأرض - ومُنذ عهد الإنسان بالحياة – من عقيدة ودين، ومِصداق ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [سورة فاطر – الآية 24]. والمُراد بالنذير، نبي أو رسول أو عالِم وارث لعِلم النُّبُوَة، يُنذر تِلك الأُمة عاقبة الكُفر بالله وبكتبه ورُسُله وشرائعه، ويُحذرها من نتائج الشرك بربها والمعصية له ولرُسُله وما يتبع ذلك من انحراف السلوك بالظلم والشر والفساد.
ولقد قال "بازماك" المؤرخ الإغريقي، مُقرراً هذه الحقيقة التي ذكرها القُرآن الكريم: لقد وُجِدَت في التاريخ مُدُن بِلا حُصون ولا قُصور وبِلا سُدود ولا قناطر، ولكن لم تُوجَد مُدُن بلا معابد.
ومِن هُنا تتجلى ضرورة الدين للإنسان، لأنه مُنذ وُجِد على هذه الأرض وهو في حاجة ماسَّة ومُلِحَّة أيضاً إلى قوانين ضابطة تُعَدِّل مِن غرائزه وتُنَظم سُلوكه وتُحدد اتجاهاته وتُهيئه للكمال الذي خُلِقَ مُستعداً له في كِلتا حياتيه، الأولى هذه يقضيها قصيرة على هذه الأرض، والثانية التي تتم له في عالمَ غير هذا العالَم الأرضي الهابط، وإنما في عالمَ  الطُهروالصفاء في الملكوت الأعلى، كما أخبر بذلك ربه بواسطة كُتبه التي أنزلها، وأنبيائه الذين أرسلهم.
ولا يستطيع أحد أن يضع له هذه القوانين غير الله الذي خلقه وعَلَّمَه وكَمَّلَه. والإنسان بفطرته يشعر بضعفه وحاجته إلى ربه في إعانته وتوفيقه ورعايته وحفظه، ولذا فهو يطلب التَعَرُّف إليه بما يجب من أنواع القرب وضروب الطاعات والعبادات، والإنسان بمواهبه وأفكاره ومشاعره وأحاسيسه يطلب دائماً المزيد من السُمُّو والرِفعة في ذلك حتى لا يريد أن يقف عند حد أبداً. فهو إذاً في أحواله هذه التي ذكرها مُفتقر إلى تشريع ديني إلهي يلائم فطرته ويُنَظِّم له علاقته فيما بينه وبين أفراده الذين لا يستغني عن التعاون معهم لتوفير أسباب حياته وبقائها صالحة في هذا الوجود من مطعم ومشرب وملبس ومسكن ومركَب، ويمده بعلوم ومعارف عن ربه ولقائه وعن كيفية عبادته ودعائه وذكره والتقرب إليه بفعل طاعته وإتيان محابه، وترك مكارهه واجتناب مساخطه، كما يمده بفيض علمي عن الحياة والكون يعرف به حقيقة الوجود وعِلة الكون والحياة، وأسباب السُّمُو والكمال والهبوط والنُقصان، والتي تطرأ عليه في حياته الأولى والآخرة.
وبناءً على ما تقدم فحاجة الإنسان إلى دين إلهي صحيح أشد من حاجته إلى العناصر الأولية لحفظ حياته من ماء وغذاء وهواء، ولا يُنكر هذا أو يُجادل فيه إلا مُعاند مُكابِر لا يؤبه لعناده ولا يُلتفت إلى جِداله.

كتبه: فضيلة الشيخ أ.د. عمر بن عبد العزيز قُرَشي
الأستاذ بكلية الدعوة – جامعة الأزهر
من كتاب: حقيقة الإيمان

11‏/01‏/2010

معنى شهادة "أن مُحَمَّدَاً رَسول الله"

معنى شهادة "أن مُحَمَّدَاً رَسول الله" هو االإقرار باللسان والإيمان بالقلب بأن مُحمد بن عبد الله القُرَشي الهاشمي رسول الله – عز وجل – إلى جميع الخلق من الجِن والإنس كما قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات – الآية 56] ولا عِبادة لله تعالى إلا عن طريق الوحي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَـزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [سورة الفرقان – الآية 1].
ومُقتضى هذه الشهادة أن تُصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وأن تمتثل أمره فيما أمر، وأن تجتنب ما نهى عنه وزجر، وأن لا تعبد الله إلا بِما شَرَع.
ومُقتضى هذه الشهادة أيضاً أن لا تعتقد أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً في الربوبية وتصريف الكون، أو حقاً في العبادة، بل هو صلى الله عليه وسلم عبدٌ لا يُعْبَد ورسولٌ لا يُكَذَّب، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً من النفع أو الضُّر إلا ما شاء الله كما قال الله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [سورة الأنعام – الآية 50]. فهو عبدٌ مأمور يَتَّبِع ما أُمِر به، وقال الله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [سورة الجِّن – الآيات 21، 22]، وقال سُبحانه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف – الآية 188].
وبهذا تعلم أنه لا يستحق العبادة لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مَن دونه مِن المخلوقين، وأن العبادة ليست إلا لله تعالى وحده. قال الله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأنعام – الآيات 162، 163]. وأن حقه صلى الله عليه وسلم أن تُنزِِله المنزلة التي أنزله الله تعالى إياها وهو أنه عبد الله ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه.

كتبه: فضيلة الشيخ العَلامة محمد بن صالح العُثَيمين، رحمه الله
من كِتاب: شرح "الثلاثة أصول" للشيخ المُجَدِّد محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله.

07‏/01‏/2010

معنى " لا إله إلا الله" ومقتضاها

معنى لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا إلهٌ واحدٌ، وهو الله وحده لا شريك له؛ لأنه المستحق للعبادة، فتضمنت هذه الكلمة العظيمة أن ما سوى الله من سائر المعبودات ليس بإلهٍ حق وأنه باطل؛ لأنه لا يستحق العبادة .
ولهذا كثيرًا ما يَرِدُ الأمر بعبادة الله مقرونًا بنفْي عبادة ما سواه؛ لأن عبادة الله لا تصح مع إشراك غيره معه، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [سورة النساء – الآية 36]. وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة – الآية 256]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل – الآية 36]. وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد مِن دون الله حرم دمه وماله" رواه مسلم .وكل رسول يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف – الآية 59]. إلى غير ذلك من الأدلة.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد "لا إله إلا الله" يقتضي أن لا إله له غير الله، والإله هو الذي يُطاع فلا يُعصى هيبةً له وإجلالاً، ومحبةً وخوفًا ورجاءً، وتوكلاً عليه وسؤالاً منه ودعاءً له، ولا يَصلُح ذلك كله إلا لله عز وجل.
ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: قولوا لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص – الآية 5]. ففهموا من هذه الكلمة أنها تُبطل عبادة الأصنام كلها، وتحصر العبادة لله وحده، وهم لا يريدون ذلك، فتبين بهذا المعنى أن معنى لا إله إلا الله ومقتضاها إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، فإذا قال العبد "لا إله إلا الله" فقد أعلن وجوب إفراد الله بالعبادة، وبطلان عبادة ما سواه، والقبور والأولياء والصالحين، وبهذا يبطل ما يعتقده عباد القبور اليوم وأشباههم من أن معنى لا إله إلا الله هو الإقرار بأن الله موجود، أو أنه هو الخالق القادر على الاختراع وأشباه ذلك، أو أن معناها لا حاكمية إلا لله. ويظنون أن من اعتقد ذلك وفَسَّر به "لا إله إلا الله" فقد حقق التوحيد المطلق ولو فعل ما فعل من عبادة غير الله والاعتقاد بالأموات، والتقرب إليهم بالذبائح والنذور والطواف بقبورهم والتبرك بتربتهم، وما شعر هؤلاء أن كفار العرب الأولين يشاركونهم في هذا الاعتقاد، ويعرفون أن الله هو الخالق القادر على الاختراع، ويقِرُّون بذلك وأنهم ما عبدوا غيره إلا لزعمهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى لا أنهم يخلقون ويرزقون. فالحاكمية جزء من معنى لا إله إلا الله وليست هي معناها الحقيقي المطلوب، فلا يكفي الحكم بالشريعة في الحقوق والحدود والخصومات مع وجود الشرك في العبادة.
ولو كان معنى لا إله إلا الله ما زعمه هؤلاء لم يكن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين نزاع، بل كانوا يبادرون إلى إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال لهم: أقِروا بأن الله هو القادر على الاختراع، أو أقِروا أن الله موجود، أو قال لهم: تحاكموا إلى الشريعة في الدماء والأموال والحقوق وسكت عن العبادة، لكن القوم وهم أهل اللسان العربي فهموا أنهم إذا قالوا "لا إله إلا الله" فقد أقروا ببطلان عبادة الأصنام، وأن هذه الكلمة ليست مجرد لفظ لا معنى له، ولهذا نفروا منها وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص – الآية 5]. كما قال الله عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات – الآيات 35، 36] .
فعرفوا أن لا إله إلا الله تقتضي ترك عبادة ما سوى الله وإفراد الله بالعبادة، وأنهم لو قالوها واستمروا على عبادة الأصنام لتناقضوا مع أنفسهم وهم يأنفون من التناقض، وعُبَّاد القبور اليوم لا يأنفون من هذا التناقض الشنيع، فهم يقولون لا إله إلا الله، ثم ينقضونها بعبادة الأموات والتقرب إلى الأضرحة بأنواع من العبادات.

كتبه: فضيلة الشيخ د. صالح الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء
مِن كِتاب: معنى لا إله إلا الله.