29‏/03‏/2014

فِيمَا يُنَاطُ بِالأَئِمَّةِ وَالْوُلاةِ مِنْ أَحْكَامِ الإِسْلامِ


مُقَدِّمَاتُ الْبَابِ
 
لِيَعْلَمَ طَالِبُ الْحَقِّ وَبَاغِي الصِّدْقِ أَنَّ مَطْلُوبَ الشَّرَائِعِ مِنَ الْخَلائِقِ، عَلَى تَفَنُّنِ الْمِلَلِ وَالطَّرَائِقِ، وَالِاسْتِمْسَاكُ بِالدِّينِ وَالتَّقْوَى، وَالاعْتِصَامُ بِمَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَالتَّشْمِيرُ لِابْتِغَاءِ مَا يُرْضِي اللَّهَ تَقَدَّسَ وَتَعَالَى، وَالِاكْتِفَاءُ بِبَلَاغٍ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا، وَالنَّدْبُ إِلَى الِانْكِفَافِ عَنْ دَوَاعِي الْهَوَى، وَالِانْحِجَازِ عَنْ مَسَالِكِ الْمُنَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَطَرَ الْجِبِلَّاتِ عَلَى التَّشَوُّفِ وَالشَّهَوَاتِ، وَنَاطَ بَقَاءَ الْمُكَلَّفِينَ بِبُلْغَةٍ وَسَدَادٍ، فَتَعَلَّقَتِ التَّكَالِيفُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى تَمْهِيدِ الْمَطَالِبِ وَالْمَكَاسِبِ، وَتَمْيِيزِ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ، وَتَهْذِيبِ مَسَالِكِ الْأَحْكَامِ عَلَى فِرَقِ الْأَنَامِ، فَجَرَتِ الدُّنْيَا مِنَ الدِّينِ مَجْرَى الْقِوَامِ، وَالنِّظَامُ مِنَ الذَّرَائِعِ إِلَى تَحْصِيلِ مَقَاصِدِ الشَّرَائِعِ.
 
وَمِنَ الْعِبَارَاتِ الرَّائِقَةِ الْفَائِقَةِ الْمُرْضِيَةِ فِي الْإِعْرَابِ عَنِ الْمَقَاصِدِ الْكُلِّيَّةِ فِي الْقَضَايَا الشَّرْعِيَّةِ: أَنَّ مَضْمُونَهَا دُعَاءٌ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ نَدْبًا وَاسْتِحْبَابًا، وَحَتْمًا وَإِيجَابًا، وَالزَّجْرُ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَمَا يُخَالِفُ الْمَعَالِيَ، تَحْرِيمًا وَحَظْرًا، وَكَرَاهِيَةً تُبَيِّنُ عِيَافَةً وَحَجْرًا، وَإِبَاحَةٌ تُغْنِي عَنِ الْفَوَاحِشِ، كَإِبَاحَةِ النِّكَاحِ الْمُغْنِي عَنِ السِّفَاحِ، أَوْ تُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَتُعْضِدُ أَسْبَابَ الْقُوَّةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ.
 
ثُمَّ لَمَّا جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى حُبِّ الْعَاجِلِ، وَالتَّطَلُّعِ إِلَى الضِّنَّةِ بِالْحَاصِلِ، وَالتَّعَلُّقِ فِي تَحْصِيلِ الدُّنْيَا بِالْوَصَائِلِ وَالْوَسَائِلِ، وَالِاسْتِهَانَةِ بِالْمَهَالِكِ وَالْغَوَائِلِ، وَالتَّهَالُكِ عَلَى جَمْعِ الْحُطَامِ مِنْ غَيْرِ تَمَاسُكٍ وَتَمَالُكٍ ; وَهَذَا يَجُرُّ التَّنَافُسَ وَالِازْدِحَامَ، وَالنِّزَاعَ وَالْخِصَامَ، وَاقْتِحَامَ الْخُطُوبِ الْعِظَامِ، فَاقْتَضَى الشَّرْعُ فَيْصَلًا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَإِنْصَافًا وَانْتِصَافًا بَيْنَ طَبَقَاتِ الْأَنَامِ، وَتَعْلِيقَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقُرْبِ وَالطَّاعَاتِ بِالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، فَيَرْبِطُ اقْتِحَامَ الْآثَامِ بِالْعِقَابِ.
 
ثُمَّ لَمْ يَنْحَجِزْ مُعْظَمُ النَّاسِ عَنِ الْهَوَى بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّهْذِيبِ، فَقَيَّضَ اللَّهُ السَّلَاطِينَ وَأُولِي الْأَمْرِ وَازِعِينَ، لِيُوَفِّرُوا الْحُقُوقَ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَيُبْلِغُوا الْحُظُوظَ ذَوِيهَا، وَيَكُفُّوا الْمُعْتَدِينَ، وَيُعَضِّدُوا الْمُقْتَصِدِينَ، وَيُشَيِّدُوا مَبَانِيَ الرَّشَادِ، وَيُحْسِمُوا مَعَانِيَ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ، فَتَنْتَظِمُ أُمُورُ الدُّنْيَا، وَيُسْتَمَدُّ مِنْهَا الدِّينُ الَّذِي إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى.
 
وَمَا ابْتَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ حَتَّى أَيَّدَهُ وَعَضَّدَهُ بِسُلْطَانٍ ذِي عُدَّةٍ وَنَجْدَةٍ، وَمِنَ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - مَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ النُّبُوَّةُ وَالْأَيْدُ وَالْقُوَّةُ كَدَاوُدَ وَمُوسَى وَسُلَيْمَانَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَلَمَّا اخْتَتَمَ اللَّهُ الرِّسَالَةَ فِي الْعَالَمِ بِسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ أَيَّدَهُ بِالْحُجَّةِ الْبَيْضَاءِ، وَالْمَحَجَّةِ الْغَرَّاءِ، وَشَدَّ بِالسَّيْفِ أَزْرَهُ، وَضَمِنَ إِظْهَارَهُ وَنَصْرَهُ، وَجَعَلَهُ إِمَامَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَمَلَاذَ الْخَلْقِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، ثُمَّ أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ وَاخْتَتَمَ الْوَحْيَ، فَاسْتَأْثَرَ بِرَسُولِهِ سَيِّدِ النَّبِيِّينَ، فَخَلَفَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِيَدْعُوَ إِلَى اللَّهِ دُعَاهُ، وَيُقَرِّرَ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَمَرَاشِدِهَا، وَيَنْتَحِي فِي اسْتِصْلَاحِ الْعِبَادِ انْتِحَاهُ.
 
 
إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، رحمه الله
غِيَاث الأُمم في التِياث الظُّلَم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق