30‏/05‏/2011

أربعين سنة... تاهوا أم يتيهون؟

إنَّ لحظات التغير في حياة الأمم قليلة ونادرة، وأقل منها وأكثر ندرة أنْ تُـتاح في أوقات التغيير فرصة للتفكير واختبار الوجهة، بحيث تُعطى الفرصة للأمة لتتدبر ماضيها ولتختار مستقبلها دون قيود أو معوقات، وفي هذه الحالة لا تكون لحظة تغيير فحسب، ولكنها معجزة مِن معجزات الله تبارك وتعالى وآية مِن آيات قدرته ربما تشبه إلى حد ما الفرصة التي يمنحها الله تبارك وتعالى لعباده كل عام في رمضان، بحيث تُصفد الشياطين كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((إِذاَ جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ)) [متفق عليه]. وعندها يقف الإنسان أمام نفسه بدون معوقات تحول بينه وبين ربه.. لكن!! نحن نتكلم هنا عن حياة الأمم حين تقع المعجزة وتصبح الأمة عن الاختيار غير عاجزة ولا تقف بينها وبين الخير قوة حاجزة، فالأمر هنا كبير ربما لم يحدث إلا مرات قليلة جداً، لعل منها ما حدث مع بني إسرائيل وقد كانوا في معيشة ضنك، يسومهم فرعون سوء العذاب ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص:4] عقود مِن الذل والاستعباد عاشها بنوا إسرائيل تحت وطئة فرعون وملئه، حتى تغيرت الفِطَر وألفت النفوس الذل والإستعباد وحتى المهانة التي لحقت بهم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ [الدخان:30]، نجاهم ربنا تبارك وتعالى بأمرٍ مِن عنده بعد لحظات عصيبة عاشوها، عذاب لا يحتمل، ومهانة خالطت القلوب والأجساد ثم هروب مِن فرعون وجنوده إلى حافة البحر حتى قالوا: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ وفُرِقَ البحر بقدرة الله، وهذه آية مِن آيات الله التي تكفي ليوقن مَن عاشها وشاهدها بوجوده سبحانه وبقدرته، وفي لحظات حاسمة طويت صفحة فرعون، وأدركه الغرق بعد أنْ كاد هو يدرك بني إسرائيل، ومضى حكم الله نافذاً ﴿إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾ [الدخان:24].. ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الدخان:28].

ووقف القوم على الشاطيء الآخر مِن البحر، على الشاطيء الآخر مِن المعجزة.. بدون فرعون.. بدون هامان.. وبدون جنودهما!!
ذهب الخوف ورُفِعت القيود، ونظر الناس أمامهم والخيار في أيديهم.
نحن أمام معجزة تمت لقد كُسِرَت القيود ولاحت الفرص. وهي معجزة بالغة الدلالة على فضل الله سبحانه وتعالى، لكن العجيب أنَّ القوم عندما وقفوا على أرض الحرية ذهبوا في الاتجاه المعاكس تماماً ﴿يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف:138] سبحان الله تريدون إلهاً؟! إذاً فمَن الذي نجاكم منذ لحظات؟! ﴿قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف:140].

هذا ما وقع فيه بنو إسرائيل بعدما نجاهم الله سبحانه وتعالى راحوا يطلبون إلهاً غيره وطريقاً غير طريقه، وفي قصتهم هذه درس عظيم خاصة في هذه الأيام مِن "أيام الله" التي نشهد فيها أحداثاً على قدر كبير مِن التشابه مع ما حدث لهم، فنحن نقف الآن على أرض الحرية بعد أنْ نجانا الله مِن القوم الظالمين وأصبحنا على الجانب الأخر نتدبر ما كان ونختار لمستقبلنا ومستقبل أمتنا.. فهل ننظر إلى نعمة الله علينا، فنقول كما قال موسى عليه السلام: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ [القصص:17] فنتوجه إلى صاحب النعمة إلى رب العالمين..؟ أم إننا بحاجة إلى استكمال القصة كما استكملها بنوا إسرائيل؟!!

﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ [البقرة:93] على هذا المنهج سار القوم وبمثل هذا الدستور استكملوا حكايتهم على أرض الحرية، اختاروا طريقهم.. طريق العبودية، لكن عبدوا ﴿عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ﴾ (الأعراف:148)!! .. بهذه الصفات البشعة اختار القوم معبودهم الذي طلبوه مِن موسى عليه السلام!!
ومِن هنا بدأت الرحلة واختار القوم بكامل حريتهم طريقاً غير طريق الله ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [النساء:153] وبعدما تاهوا وراء عجلهم علموا أنَّ الطريق مسدودة ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف:149].
وعادوا بعدها إلى نقطة البداية واختاروا طريقاً جديداً لكنهم وكأنَّ شيئاً لم يكن ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ [النساء:46] فلما قال لهم نبيهم: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ [المائدة:21] ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا﴾ [المائدة:24]، فكَتَبَ الله تبارك وتعالى عليهم التيه الذي اختاروه لأنفسهم مِن بداية الرحلة على أرض الحرية ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة:26] تاه القوم وظلموا هكذا لا يستقر لهم قرار ولا يستقيم لهم حال، كلما أنعم الله عليهم بنعمة يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير!!
والتيه في اللغة: الحيرة.. قال السعدي: ((يتيهون في الأرض، لا يهتدون إلى طريق ولا يبقون مطمئنين)).

هكذا كانت وجهة بني إسرائيل عندما فتحت أمامهم أبواب الحرية والاختيار.. وهذه قصتهم أخبرنا الله تبارك وتعالى بها في كتابه لتكون حكمة بالغة لعلنا نتذكر أو نخشى.
وعند هذا الحد كان مِن المفترض أنْ تقف البشرية كلها على هذه القصة، وكان مِن المتوقع ألا تتكرر.. ولكنها السنن!!
كما روى أبو واقد الليثي- وكان من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم- قال: ((لما افتتح رسول الله مكة خرج بنا معه قبل هوازن حتى مررنا على سدرة الكفار -سدرة يعكفون حولها ويدعونها ذات أنواط- قلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر إنها السنن، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف:138] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتركبن سنن مَن قبلكم)) [ابن حبان وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم].

هكذا هي السنن فمن سنن الله التي لا تتبدل أنَّ مَن اختار طريقاً غير طريق الله دخل في تيه لا يعلم منتهاه إلا الله، ولقد ذقنا مرارة الاحتلال الأجنبي لبلادنا، فلما نجانا الله مِن المحتل اختار أصحاب القرار وقتها من على أرض الحرية طريقاً غير طريق الله وقالوا: "اشتراكية ومركسية"، ووافقهم مَن وافقهم على ذلك فدخلت الأمة في التيه ثم عادت كما عاد بنو إسرائيل، لكنهم وبنفس الطريقة اختاروا طريقاً غير طريق الله وقالوا: "ديموقراطية ورأس مالية" ودخلت الأمة في التيه سنين عدداً، ثم لما عرف القوم أنَّ الطريق مسدود عادوا إلى نقطة البداية وهذه المرة بفضل الله المحض وقفت الأمة على أعتاب باب الحرية!!
لكن.. مازالت أصوات عالية ومصممة على دخول التيه مرة أخرى فنسمع مَن ينادي بالعلمانية تارة، ومَن ينادي بالليبرالية تارة أخرى ومَن يجمع بينهما، والمهم عندهم أنْ تبتعد الأمة مرة أخرى عن طريق ربها!!

والسؤال هنا هل نتمكن هذه المرة أنْ نخرج مِن هذا التيه الذي دخلت فيه أمتنا منذ سنين، ونكتفي بهذه المراحل التي تاهت مِن عمر الأمة وتاهت فيها الأمة أم ندخل في مرحلة جديدة مِن التيه بعد أنْ تبينت لنا سنن الله في المخالفين لمنهجه؟!
وإجابة هذا السؤال تعتمد إلى حد كبير على نجاح أهل الحق في عرض الحق الذي معهم وتحويله إلى واقع ملموس في حياة الناس.
ونقول لهؤلاء الذي ما كفاهم المتاهات التي دخلت فيها الأمة بعيداً عن شرع الله نقول لهم كما قال الله تعالى ﴿وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال:19]، انتهوا خيراً لكم يا عباد الله، هذه هي سُنة الله فيمن اختار طريقاً غير طريقه، أنتم الآن على أرض الحرية، فأين تذهبون؟!

كتبه: سامح أحمد أبو الروس
مجلة التوحيد: العدد 474 – السنة الأربعون – جمادى الآخر 1432هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق