قال النووي رحمه الله: ((قوله عليه الصلاة والسلام: "دُعاةٌ على أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها"، قال العلماء: هؤلاء مَن كان مِن الأمراء يدعو إلى بدعةٍ أو ضلالٍ آخَر، كالخوارِج والقرامِطة وأصحاب المِحنة)) [صحيح مسلم شرح النووي (6/37)]...
ولا شك أنَّ أهل البِدَع المعاصِرة المنتسبين إلى الإسلام الداعين إلى الكفر والنفاق مِن أصحاب المذاهب الإلحادية كالعَلمانيين، وأصحاب القوانين الوضعية، والديموقراطيين، والاشتراكيين، والوطنيين القوميين الذين يريدون هدم الرابطة الدينية للمجتمع وإقامة الرابطة الوطنية بدلاً منها، ومَن ينادي بلزوم اتَّباع الغرب وتقليده، وكذا سائر الأحزاب القائمة على خِلاف مبدأ دين الله أو مباديء دين الله سبحانه، بالإضافة إلى دعاة البِدَع القديمة التي تُطِل في ثوبٍ جديد أو في ثوبها القديم، كالرافضة والخوارج والقبوريين، لا شك أنَّ كل هؤلاء ينطبق عليهم هذا الوصف مِن النبي صلى الله عليه وسلم، وما أكثرهم في زماننا، وقد قَوِيَ سلطانهم وتملَّكوا بلاداً وأقطاراً نشروا فيها النفاق الأكبر، وأحياناً الكفر البواح بلا مُداراة، فضلاً عن صفات النفاق والفسوق والعصيان التي ملأت المجتمعات بسببهم، وتفرق الناس في صراعات جاهلية في متابعتهم، أهلكت القلوب والأبدان والعباد والبلاد.
ولا شك أنَّ القبول بتصدُّر أمثال هؤلاء ورياستهم للمجتمع والإقرار بولايتهم على المسلمين – ولاية شرعية يُؤمَرُ المسلمين فيها بالسمع والطاعة والاعتراف لهم بحق التوجيه والأمر والنهي – مِن أعظم ما يؤدي إلى فُرقة المسلمين وهلاكهم في طاعة هؤلاء.
وللأسف فهذا مذهب البعض مِن أبناء الصحوة، يَرَوْن هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم ولاة أمور شرعيين وليسوا فقط قد فرضوا على المسلمين أمراً واقعاً بالقوة لا بالحق. ولا شك في ضرورة التفرقة بين الأمر الواقع والأمر الشرعي الذي هو الحق دون ما سواه.
ومِن أسباب الشُّبهة التي دخلت على البعض في هذا المقام: كلام أهل العلم في أنَّ الولاية تثبُت بالاستيلاء والتغلُّب، ولو لم يكُن مستوفياً شروط الإمامة.
والحقيقة أنَّ كلام العلماء في ذلك إنما هو إستيلاء مَن هو صالح للإمامة، قال الإمام الجُوَيْني: ((فإن خلا الزمانُ عن ذلك واستولى كافٍ ذو استقلال بالأشغال للذب عن بيضةِ الإسلام وحوزته، فهذا له حُكم الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الذي تُوَكَّل له الأمور التي كانت مَنوطة بالأئمة، لأنهم إنما تولوا الأمور ليكونوا ذرائع إلى إقامة أحكام الشرائع)) [راجع غياث الأُمم – صفحات (239-278)]، والأدلة التي استدلوا بها تدل على ذلك، فإنَّ مِن أدلة ذلك قَوْل النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو استُعْمِل عليكم عبدُ حبشيٌ يقودُكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)) [صحيح مسلم (1298)، والنسائي (4203)، وابن ماجة (2861)]، وفي رواية: ((مجدَع الأطراف))، ومعلومٌ أنَّ الحرِّية والنَّسَب مِن شروط الإمامة، ((وقد حَمَل العلماء الحديث على صورتَيْن: إما أنْ يوليه بعض الأئمة أو أنْ يتغلَّب على البلاد بشوكته وأتباعه)) [صحيح مسلم شرح النووي (26/6)]، والحديث ظاهر في أنه لابد أنْ يقود الناس بكتاب الله، فالغرض إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين.
وكما قال الإمام الجُوَيْني: ((والغَرَض استصلاح أهل الإيمان على أقصى ما يُفْرَض فيه الإمكان)). وليس المقصود وجود صورة الولاية حتى لو كانت حرباً على الدين وأهله وولايةً للكفار ونُصحاً لهم وسعياً لمصلحتهم على حساب المسلمين وبلادهم، فإذا أضفنا إلى ذلك أنهم ما تولوا الرياسة أصلاً باسم الدين ولا نسبوا أنفسهم إلى القيام بواجباته، بل يُقسِمون صراحةً على إقامة دساتيرهم وقوانينهم الوضعية، التي يعلم الكافَّة مخالفتها للشريعة المخالفة الكفرية، بل لا يتولى أحدهم منصبه بمثل هذا القَسَم.
فأين العَقْد الذي عقدته له الأمة ممثَّلةً في أهل الحل والعقد منها؟ وأين المقصود الشرعي للإمامة شكلاً أو موضوعاً، رسماً أو حقيقةً واقعةً حتى يُمكِن مِن أجله تصحيح الولاية شرعاً للقيام بالمصالح والمقاصد الشرعية وعدم إهدارها ولو بدون عقد ولاية مِن أهل الحل والعقد؟ مِن الواضح الجلي أنه لا هذا ولا ذاك يمكن أنْ يُدًّعى وجوده بأقل الدرجات.
وهذه المسألة – نعني عدم اعتبارهم ولاة شرعيين – ليست مبنية على تكفير أعيانهم مِن عدم تكفيرهم، فالإسلام شرط آخر مِن شروط الولاية تبطل بفقده كولاية شرعية ابتداءً أو عند طروء الكُفر كما هو مُبَيَّن في موضعه، ولكن لا يلزم مِن عدم التكفير بالأعيان – لعذرٍ بجهل أو تأويل أو إكراهٍ مُدًّعَى – أنْ تُصَحَّح الولاية شرعاً، لأنَّ العَقْد لم يتم عليها، ولا المقاصد الشرعية وُجِدَت حتى يُمْكِن اعتبارها صحيحة بالتغَلُّب.
أما مسألة التكفير فهي لأهلِ العِلمِ حسب استيفاء الشروط وانتفاء الموانِع، وكثيراً ما يكون الاختلاف فيها راجعاً غلى تحقيق المناط، وهذا في أحوالنا اليوم غالباً ما يكون سائغاً لانتشار المنافقين وكثرة مداراتهم وتلبيسهم على الناس، حتى أهلِ العِلم منهم.
كتبه: ياسر برهامي
مِن كتاب "فقه الخلاف بين المسلمين"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق