الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن الأيام تُطوى، والأهِلة تتوالى، والأكفان تُنسج، والأعمال تُدَوَّن، والموعد يقترب.
أجيال تفِد إلى الدنيا كل يوم، وأجيال ترحل عنها. والغفلة تستحكم على كثيرٍ مِن القلوب؛ حتى غدا أكثر بني آدم يبنون دنياهم ويهدمون أخراهم.
ها هي جموع المسلمين لا تتمعر وجوههم إذا انتهكت محارمُ الله؛ لكنهم يغضبون إذا انتُقص شيءٌ مِن دنياهم، إلا من رحم الله، وقليلٌ ما هم.
فالتاجرُ منهم ينظر إلى الربح ولا ينظر إلى طريقة التحصيل أحرامٌ هي أم حلال!
والموظف يستيقظ فزعاً لعمل الدنيا لكنه ينام عن عمل الآخرة!
والمرأة تخلت عن كثيرٍ مِن حجابها، وارتكبت كثيراً مما يسخط ربها!
والأسرةُ المسلمة هَمُّها أن لا ينتقص شيءٌ مِن وسائل عَيشها الكريم، ولا أنْ تمُسَّ رفاهيتها بسوء.
وأما همُّ الإسلام وهمُّ الآخرة فليس في الحسبان إلا عند قليل ممن لم تأخذهم دوامة المادية المعاصرة. وبعضٌ مما نرى مِن أعمال الخير ما كانت لأجل الله والدار الآخرة؛ وإنما هي لأجل الدنيا. ومِن الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا.
وقليل ثم قليل أولئك المخلصون الصادقون.
مَن يَعتبِر؟!
ينقضي هذا العامُ وكأنَّ أيامه لم تكن شيئاً مذكوراً.
اثنا عشر شهراً، بدأ هلالُ الواحدِ منها ضعيفاً ثم أخذ يكبر حتى صار بدراً، ثم أخذ في الضعف حتى تلاشى، ثم تبعته الشهور الأخرى حتى تم ميقاتها، وانقضى أجلها، وتمت السنة!!
الله أكبر، ما أسرع الأيام!
وما أكثر العصيان!
وما أقل الاعتبار!
والإنسان يمضي في هذه الدنيا كما مضت تلك الشهور.
لو سألت الشيخ الكبير عن شبابه وطفولته لحدثك عنها، وأخبرك أنها مرت سريعاً، وتجد أن أمله لا يزال طويلاً.
والشاب نسي طفولته وأمّل في مزيد من العيش، وإن طال به العمر ليَبْكِيَنَّ شبابه. وهكذا الدنيا.. ولكن أين العقلاء والمعتبِرون؟!
هل يكفي طول العمر؟
إن العبرة ليست بطول العمر، وإنما هي بحُسن العمل.
هل صَحِب الجاهُ أهلَ الجاهِ إلى قبورهم؟
وهل كان المالُ مع أهلِ المال في لُحودهم؟!
يالفوز مَن صَلُح ظاهره وباطنه، فخُتِم له بحُسن عمله.
ويالخسارة مَن فَسَد باطنه فخُتم له بالسوء.
ذلك أن مَن مات على شيء بُعِث عليه كما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يُبْعَث كل عبدٍ على ما مات عليه ) [رواه مسلم 2878].
وفي قصة الرجل الذي سقط عن راحلته في عرفة أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يُبْعَث يوم القيامة مُلَبِّياً، وأخبر أن الشهيد يُبْعَث يوم القيامة وجرحه يُدمى: اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
وما كان موت الفجأة مذموماً إلا لأنه يَفْجَأ صاحبه قبل التوبة مِن المعاصي.
خوف السلف مِن سوء الخاتمة
لقد كان خوف السلف مِن سوء الخاتمة عظيماً.
بكى سفيان الثوريُ ليلةً إلى الصباح، فقيل له: أبكاؤك هذا على الذنوب؟
فأخذ تبنة من الأرض وقال: الذنوب أهون مِن هذه؟ إنما أبكي خوف الخاتمة. [ العاقبة في ذكر الموت والآخرة للأشبيلي 175 ].
وقال عطاء الخفاف: ما لقيت سفيانَ إلا باكياً فقلت: ما شأنك؟
وقال: أتخوف أن أكون في أم الكتاب شقياً [ السِيَر7/266].
وقال سهل التستري: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله إذ قال ( وقلوبهم وجلة ).
أسباب سوء الخاتمة
أعظم سبب لسوء الخاتمة فسادُ القلب بفساد الاعتقاد حتى ولو صَلَح الظاهر، وأقبح ذلك التلبسُ بالشرك أو شيء منه أو الاستمرار على البدعة.
والشركُ مَنَعَ عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب أن يشهد شهادة الحق حالَ احتضاره، وكم من مبتدع خُتِم له بالسوء.
ومقارفة الكبائر، والإصرارً على الذنوب مفسدٌ للقلب، مؤذنٌ بشؤم العاقبة، وسوء الخاتمة.
والمحتضر يردد حال احتضاره ما كان يكثر من قولٍ وعمل خيراً كان أم شراً.
وواقع المحتضرين يدل على ذلك؛ فأهل الصلاح يختم لهم في الغالب بصالح أعمالهم، وأهل الفساد يختم لهم بفسادهم.
وكم مِن عاصٍ مات وهو يُغَنَِي أو وهو يشرب الخمر أو انعقد لسانه عن شهادة الحق فلم يستطع نطقها عوذاً بالله مِن ذلك.
قال مجاهد رحمه الله تعالى: ما مِن ميت يموت إلا مُثِّل له جلساؤه الذين كان يجالسهم [ الكبائر للذهبي 100 ].
وقد ذكر العلماء أن سوء الخاتمة على رتبتين إحداهما أعظم من الأخرى:
1 - فأما الرتبة العظيمة الهائلة فهي أن يَغلبَ على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله إما الشكُ وإما الجحود؛ فتُقْبَض الروح على تلك الحالة فتكون حجاباً بينه وبين الله تعالى أبداً، وذلك يقتضي البٌعدَ الدائم والعذاب المخلد.
2 - والثانيةُ وهي دونها: أن يغلِبَ على القلب عند الموت حبُ أمَْر مٍن أمور الدنيا أو شهوة من شهواتها، فيتمثلُ ذلك في قلبه ويستغرقه حتى لا يبقى في تلك الحالة متسعٌ لغيره.
فمهما اتفق قبضُ الروح في حالة غلبة حب الدنيا فالأمر مخطر؛ لأن المرء يموت على ما عاش عليه وعند ذلك تعظم الحسرة [ انظر: إحياء علوم الدين 4/162]
فيا ترى: كم مقدارُ الدنيا في قلوبنا؟! وماذا قدمنا لآخرتنا؟!
إن عملَ كثيرين منا ولهاثهم خلف المتاع والمال لَيَدُل على أنَّ الدنيا استمكنت مِن قلوب الكثيرين، أو على الأقل غلبت على قلوبهم فأفسدتها وصدتها عن الآخرة؛ حتى أصبحوا لا يجدون لذة العبادة. بل لذتهم وسعادتهم في منصب يبلغونه، أو مالٍ يكسبونه، أو مجدٍ يحققونه، ولو كان بعيداً عن ذكر الله وشكره وحسن عبادته.
ومن أعظم الشؤم وأسوأ العاقبة، أن يعملَ العبدُ في الصالحات وقد كُتِبَ في أم الكتاب مِن الأشقياء. يراه الناسُ فيغبطونه على صالح عمله؛ لكنهم لا يعلمون فساد نيته، وخبث طويته، ومراءاته في عمله، وما اطلعوا على أسراره وخفاياه؛ بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى.
عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ لا يدع شاذَّةً إلا اتَّبَعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحدٌ كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما إنه من أهل النار ) فقال رجل مِن القوم: أنا صاحبهُ أبداً، قال: فخرج معه، كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجلُ جُرحاً شديداً؛ فاستعجل الموت فوضع نَصْل سيفه بالأرض وذُبَابَه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه؛ فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي ذكرتَ آنفاً مِن أهل النار؛ فأعظَمَ الناسُ ذلك. فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه حتى جُرِح جُرحاً شديداً؛ فاستعجل الموت، فوضع نَصْل سيفه بالأرض وذُبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ( إنَّ الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو مِن أهل النار، وإنَّ الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو مِن أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم ) رواه مسلم 112.
أهمية صلاح القلوب والأعمال
مكانُ الدفن، وساعةُ الموت، وكثرةُ المشيعين، ليست تزيد في الحسنات أو تنقصُ السيئات.
وقد يكون منها ما هو علامةُ خير، ودليلُ فوز؛ كشهادة الصالحين للعبد بالخير، فهُم شهداء الله في أرضه؛ بيد أن العبرةَ بصلاح القلوب، وقبولِ الأعمال.
والناس يحكُمون بمقتضى الظاهر، وأما القلوب فلا يعلم مكنونها إلا الله تعالى.
وقد مرَّ بعض الصالحين بيهودي ميتٍ قد أوصى أن يُدفن ببيت المقدس، فقال: أيُكابر هؤلاء الأقدار؟ أما علِموا أنهم لو دُفِنوا في الفردوس الأعلى لجاءت لظى بأنكالها حتى تأخذه إليها، وتنطلق به معها [ العاقبة 178 ].
وقال آخر: مَن حُكِم له بالسعادة لا يشقى أبداً، وإنْ ألحَّ غاويه، وكَثُر معاديه، وأُحيط به مِن جميع نواحيه.
ومَن حُكِم له بالشقاوة لا يسعد أبداً، وإن عُمِّر ناديه، وأُخْصِب واديه، وحَسُنَت أواخره ومباديه.
كم مِن عابِدٍ ظهرت عليه أنوارُ العبادة، وآثار الإرادة، وبدت منه مخايل السعادة، وارتفع صيته، وانتشر في الآفاق ذكره، وعظم في الناس شأنه جمحت به الأقدار جمحة ردته على عقبيه فختم له بالسوء [ تنظر: العاقبة 178].
ومِن المعلوم أنَّ سوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره، وصَلُح باطنه. وإنما تكون لمن كان عنده فسادٌ في القلب، وإصرار على الكبائر؛
فربما غَلَبَ ذلك عليه حتى ينزِل به الموتُ قبل التوبة، ويثِبَ عليه قبل الإنابة.
وربما غَلَبَ على الإنسان ضربٌ مِن الخطيئة، ونوعٌ مِن المعصية، وجانبٌ مِن الإعراض، ونصيب مِن الافتراء؛ فمَلَكَ قلبَه، وسبى عقله؛ فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة؛ فيتخبطُه الشيطانُ عند موته، ويسلبُه إيمانه.
والعبد المؤمن مأمور بأنْ يجتهد في إصلاح قلبه، ويسارع في مرضاة ربه، وأنْ يسأل الله الثبات إلى الممات؛ فإن القلوب بين إصبعين مِن أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
وفي ختام هذا العام، هل نعتبر بما مضى مِن الأيام؟!
هل نخاف مِن سوء الختام؟!
هل يبادر العاصي منا إلى ربه فيتوب من معصيته، ويسارع إلى طاعته؟!
فلعل الله يقْبَل توبتَه ويكتبُ له بها سعادةً لا يشقى بعدها أبداً.
أسأل الله تعالى أنْ يُصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يحسن خواتمنا، وأن يجعلنا ممن قبله ورضى عنه إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
أما بعد: فإن الأيام تُطوى، والأهِلة تتوالى، والأكفان تُنسج، والأعمال تُدَوَّن، والموعد يقترب.
أجيال تفِد إلى الدنيا كل يوم، وأجيال ترحل عنها. والغفلة تستحكم على كثيرٍ مِن القلوب؛ حتى غدا أكثر بني آدم يبنون دنياهم ويهدمون أخراهم.
ها هي جموع المسلمين لا تتمعر وجوههم إذا انتهكت محارمُ الله؛ لكنهم يغضبون إذا انتُقص شيءٌ مِن دنياهم، إلا من رحم الله، وقليلٌ ما هم.
فالتاجرُ منهم ينظر إلى الربح ولا ينظر إلى طريقة التحصيل أحرامٌ هي أم حلال!
والموظف يستيقظ فزعاً لعمل الدنيا لكنه ينام عن عمل الآخرة!
والمرأة تخلت عن كثيرٍ مِن حجابها، وارتكبت كثيراً مما يسخط ربها!
والأسرةُ المسلمة هَمُّها أن لا ينتقص شيءٌ مِن وسائل عَيشها الكريم، ولا أنْ تمُسَّ رفاهيتها بسوء.
وأما همُّ الإسلام وهمُّ الآخرة فليس في الحسبان إلا عند قليل ممن لم تأخذهم دوامة المادية المعاصرة. وبعضٌ مما نرى مِن أعمال الخير ما كانت لأجل الله والدار الآخرة؛ وإنما هي لأجل الدنيا. ومِن الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا.
وقليل ثم قليل أولئك المخلصون الصادقون.
مَن يَعتبِر؟!
ينقضي هذا العامُ وكأنَّ أيامه لم تكن شيئاً مذكوراً.
اثنا عشر شهراً، بدأ هلالُ الواحدِ منها ضعيفاً ثم أخذ يكبر حتى صار بدراً، ثم أخذ في الضعف حتى تلاشى، ثم تبعته الشهور الأخرى حتى تم ميقاتها، وانقضى أجلها، وتمت السنة!!
الله أكبر، ما أسرع الأيام!
وما أكثر العصيان!
وما أقل الاعتبار!
والإنسان يمضي في هذه الدنيا كما مضت تلك الشهور.
لو سألت الشيخ الكبير عن شبابه وطفولته لحدثك عنها، وأخبرك أنها مرت سريعاً، وتجد أن أمله لا يزال طويلاً.
والشاب نسي طفولته وأمّل في مزيد من العيش، وإن طال به العمر ليَبْكِيَنَّ شبابه. وهكذا الدنيا.. ولكن أين العقلاء والمعتبِرون؟!
هل يكفي طول العمر؟
إن العبرة ليست بطول العمر، وإنما هي بحُسن العمل.
هل صَحِب الجاهُ أهلَ الجاهِ إلى قبورهم؟
وهل كان المالُ مع أهلِ المال في لُحودهم؟!
يالفوز مَن صَلُح ظاهره وباطنه، فخُتِم له بحُسن عمله.
ويالخسارة مَن فَسَد باطنه فخُتم له بالسوء.
ذلك أن مَن مات على شيء بُعِث عليه كما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يُبْعَث كل عبدٍ على ما مات عليه ) [رواه مسلم 2878].
وفي قصة الرجل الذي سقط عن راحلته في عرفة أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يُبْعَث يوم القيامة مُلَبِّياً، وأخبر أن الشهيد يُبْعَث يوم القيامة وجرحه يُدمى: اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
وما كان موت الفجأة مذموماً إلا لأنه يَفْجَأ صاحبه قبل التوبة مِن المعاصي.
خوف السلف مِن سوء الخاتمة
لقد كان خوف السلف مِن سوء الخاتمة عظيماً.
بكى سفيان الثوريُ ليلةً إلى الصباح، فقيل له: أبكاؤك هذا على الذنوب؟
فأخذ تبنة من الأرض وقال: الذنوب أهون مِن هذه؟ إنما أبكي خوف الخاتمة. [ العاقبة في ذكر الموت والآخرة للأشبيلي 175 ].
وقال عطاء الخفاف: ما لقيت سفيانَ إلا باكياً فقلت: ما شأنك؟
وقال: أتخوف أن أكون في أم الكتاب شقياً [ السِيَر7/266].
وقال سهل التستري: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله إذ قال ( وقلوبهم وجلة ).
أسباب سوء الخاتمة
أعظم سبب لسوء الخاتمة فسادُ القلب بفساد الاعتقاد حتى ولو صَلَح الظاهر، وأقبح ذلك التلبسُ بالشرك أو شيء منه أو الاستمرار على البدعة.
والشركُ مَنَعَ عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب أن يشهد شهادة الحق حالَ احتضاره، وكم من مبتدع خُتِم له بالسوء.
ومقارفة الكبائر، والإصرارً على الذنوب مفسدٌ للقلب، مؤذنٌ بشؤم العاقبة، وسوء الخاتمة.
والمحتضر يردد حال احتضاره ما كان يكثر من قولٍ وعمل خيراً كان أم شراً.
وواقع المحتضرين يدل على ذلك؛ فأهل الصلاح يختم لهم في الغالب بصالح أعمالهم، وأهل الفساد يختم لهم بفسادهم.
وكم مِن عاصٍ مات وهو يُغَنَِي أو وهو يشرب الخمر أو انعقد لسانه عن شهادة الحق فلم يستطع نطقها عوذاً بالله مِن ذلك.
قال مجاهد رحمه الله تعالى: ما مِن ميت يموت إلا مُثِّل له جلساؤه الذين كان يجالسهم [ الكبائر للذهبي 100 ].
وقد ذكر العلماء أن سوء الخاتمة على رتبتين إحداهما أعظم من الأخرى:
1 - فأما الرتبة العظيمة الهائلة فهي أن يَغلبَ على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله إما الشكُ وإما الجحود؛ فتُقْبَض الروح على تلك الحالة فتكون حجاباً بينه وبين الله تعالى أبداً، وذلك يقتضي البٌعدَ الدائم والعذاب المخلد.
2 - والثانيةُ وهي دونها: أن يغلِبَ على القلب عند الموت حبُ أمَْر مٍن أمور الدنيا أو شهوة من شهواتها، فيتمثلُ ذلك في قلبه ويستغرقه حتى لا يبقى في تلك الحالة متسعٌ لغيره.
فمهما اتفق قبضُ الروح في حالة غلبة حب الدنيا فالأمر مخطر؛ لأن المرء يموت على ما عاش عليه وعند ذلك تعظم الحسرة [ انظر: إحياء علوم الدين 4/162]
فيا ترى: كم مقدارُ الدنيا في قلوبنا؟! وماذا قدمنا لآخرتنا؟!
إن عملَ كثيرين منا ولهاثهم خلف المتاع والمال لَيَدُل على أنَّ الدنيا استمكنت مِن قلوب الكثيرين، أو على الأقل غلبت على قلوبهم فأفسدتها وصدتها عن الآخرة؛ حتى أصبحوا لا يجدون لذة العبادة. بل لذتهم وسعادتهم في منصب يبلغونه، أو مالٍ يكسبونه، أو مجدٍ يحققونه، ولو كان بعيداً عن ذكر الله وشكره وحسن عبادته.
ومن أعظم الشؤم وأسوأ العاقبة، أن يعملَ العبدُ في الصالحات وقد كُتِبَ في أم الكتاب مِن الأشقياء. يراه الناسُ فيغبطونه على صالح عمله؛ لكنهم لا يعلمون فساد نيته، وخبث طويته، ومراءاته في عمله، وما اطلعوا على أسراره وخفاياه؛ بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى.
عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ لا يدع شاذَّةً إلا اتَّبَعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحدٌ كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما إنه من أهل النار ) فقال رجل مِن القوم: أنا صاحبهُ أبداً، قال: فخرج معه، كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجلُ جُرحاً شديداً؛ فاستعجل الموت فوضع نَصْل سيفه بالأرض وذُبَابَه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه؛ فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي ذكرتَ آنفاً مِن أهل النار؛ فأعظَمَ الناسُ ذلك. فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه حتى جُرِح جُرحاً شديداً؛ فاستعجل الموت، فوضع نَصْل سيفه بالأرض وذُبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ( إنَّ الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو مِن أهل النار، وإنَّ الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو مِن أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم ) رواه مسلم 112.
أهمية صلاح القلوب والأعمال
مكانُ الدفن، وساعةُ الموت، وكثرةُ المشيعين، ليست تزيد في الحسنات أو تنقصُ السيئات.
وقد يكون منها ما هو علامةُ خير، ودليلُ فوز؛ كشهادة الصالحين للعبد بالخير، فهُم شهداء الله في أرضه؛ بيد أن العبرةَ بصلاح القلوب، وقبولِ الأعمال.
والناس يحكُمون بمقتضى الظاهر، وأما القلوب فلا يعلم مكنونها إلا الله تعالى.
وقد مرَّ بعض الصالحين بيهودي ميتٍ قد أوصى أن يُدفن ببيت المقدس، فقال: أيُكابر هؤلاء الأقدار؟ أما علِموا أنهم لو دُفِنوا في الفردوس الأعلى لجاءت لظى بأنكالها حتى تأخذه إليها، وتنطلق به معها [ العاقبة 178 ].
وقال آخر: مَن حُكِم له بالسعادة لا يشقى أبداً، وإنْ ألحَّ غاويه، وكَثُر معاديه، وأُحيط به مِن جميع نواحيه.
ومَن حُكِم له بالشقاوة لا يسعد أبداً، وإن عُمِّر ناديه، وأُخْصِب واديه، وحَسُنَت أواخره ومباديه.
كم مِن عابِدٍ ظهرت عليه أنوارُ العبادة، وآثار الإرادة، وبدت منه مخايل السعادة، وارتفع صيته، وانتشر في الآفاق ذكره، وعظم في الناس شأنه جمحت به الأقدار جمحة ردته على عقبيه فختم له بالسوء [ تنظر: العاقبة 178].
ومِن المعلوم أنَّ سوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره، وصَلُح باطنه. وإنما تكون لمن كان عنده فسادٌ في القلب، وإصرار على الكبائر؛
فربما غَلَبَ ذلك عليه حتى ينزِل به الموتُ قبل التوبة، ويثِبَ عليه قبل الإنابة.
وربما غَلَبَ على الإنسان ضربٌ مِن الخطيئة، ونوعٌ مِن المعصية، وجانبٌ مِن الإعراض، ونصيب مِن الافتراء؛ فمَلَكَ قلبَه، وسبى عقله؛ فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة؛ فيتخبطُه الشيطانُ عند موته، ويسلبُه إيمانه.
والعبد المؤمن مأمور بأنْ يجتهد في إصلاح قلبه، ويسارع في مرضاة ربه، وأنْ يسأل الله الثبات إلى الممات؛ فإن القلوب بين إصبعين مِن أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
وفي ختام هذا العام، هل نعتبر بما مضى مِن الأيام؟!
هل نخاف مِن سوء الختام؟!
هل يبادر العاصي منا إلى ربه فيتوب من معصيته، ويسارع إلى طاعته؟!
فلعل الله يقْبَل توبتَه ويكتبُ له بها سعادةً لا يشقى بعدها أبداً.
أسأل الله تعالى أنْ يُصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يحسن خواتمنا، وأن يجعلنا ممن قبله ورضى عنه إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
كتبه: إبراهيم بن محمد الحقيل
منقول مِن مطوية بعنوان: سوء الخاتمة وختامُ العام
دار ابن خزيمة
منقول مِن مطوية بعنوان: سوء الخاتمة وختامُ العام
دار ابن خزيمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق