الصراع بين الدين والعلم مشكلة من أعمق وأعقد المشكلات في التاريخ الفكري الأوروبي إن لم تكن أعمقها قاطبة، فمنذ عصر النهضة إلى عصرنا الحاضر والصراع على أشده بين مؤيدي العلم وأنصار الدين، ورغم كل الظواهر البارزة في الحياة الغربية التي تؤكد أن المعركة قد انتهت وأن العلم انتصر بصفة نهائية على خصمه اللدود، فإن هناك ما يدل دلالة قوية على أن الدين، أو على الأصح بعض قضاياه الاعتقادية والسلوكية، لم تكن في عصر من العصور أقوى حجة منها في هذا العصر، لا سيما بعد أن تنكرت الثقافة الغربية لأفكار القرن التاسع عشر التي تتسم بخاصيتي "الإطلاق والعقلانية" واعتنقت نظريات القرن العشرين التي تتميز بالنسبية واللامعقول.
ولذلك فقد خُيِّل للكثيرين أن المعركة لم ولن تنتهي وأنها باقية ما بقيت المعرفة الإنسانية، وساعد على ترسيخ هذه الفكرة تقبل النفسية الأوروبية للازدواجية في كل شيء وهو التقبل الذي تولد من خضوعها المستمر لسلطتين متباينتين وإيمانها الطويل بفكرتين متناقضتين.
وقليلٌ منهم من فطن إلى السِّر الكامن وراء استمرارية المعركة دون نتيجة نهائية حاسمة. والواقع أن السبب الحقيقي في ذلك يمكن إدراكه بسهولة لو أن الإنسان الغربي – من أي الفريقين – تخلى عن غروره وتبجحه ونَظَر إلى المشكلة نظرة تقييمية مجردة، وذلك أن أي خصمين يملك كل منهما نصف الحقيقة لا يمكن أن ينتصر أحدهما على الآخر انتصاراً نهائياً.
وبتطبيق هذه البديهية على الصراع بين العلم والدين الأوروبيين نجد أن المواقع التي احتلها العلم من مناطق نفوذ الدين هي في الحقيقة المواقع التي انتصر فيها العقل واليقين على الخرافة والوهم، كما أن المواقع التي صمد فيها الدين أمام الهجوم العلمي الكاسح هي المواقع التي انتصرت فيها الحقيقة الموحاة على التخرصات والأهواء.
وحينئذ نستطيع أن نقول مطمئنين: إن الحق في كل من الطرفين هو الذي انتصر، أو سينتصر، على الباطل في كليهما، وأنه لو كان الدين الأوروبي حقاً خالصاً والعِلم الأوروبي يقيناً مجرداً لما حدثت معركة على الإطلاق.
وبما أن الدين بصبغته الإلهية النقية لم يدخل المعركة، فإن الأوفق أن نُسمي ما حدث في الغرب صراعاً بين الكنيسة والعلم، وليس بين الدين والعلم.
ومن المؤسف حقاً أن جناية رجال الدين الأوربيين على الحقيقة كانت أشنع وأنكى من جناية أنصار العِلم عليها، وإن كان كل منهما مسؤولاً عن النتائج المؤسفة لذلك الصراع، ذلك أن الكنسية ارتكبت خطأين فادحين في آن واحد:
أحدهما: تحريف حقائق الوحي الإلهي وخلطها بكلام البشر.
والآخر: فرض الوصاية الطاغية على ما ليس داخلاً في دائرة اختصاصها.
والخطأ الأول مسؤول عن تسرب الخرافات الوثنية والمعلومات البشرية إلى كثير من تعاليم المسيحية، إذ جعلتها الكنيسة عقائد إلهية تدخل في صلب الدين وصميمه، وعدت الكفر بها كفراً بالوحي والدين.
والخطأ الثاني نشأ عن ضيق صدر الكنيسة بما يخالف تعاليمها الممزوجة وإصرارها الأعمى على التشبث بها، فكان الامتداد الطبيعي للطغيان الديني طغياناً فكرياً عاماً، وحاسبت الناس، لا على معتقدات قلوبهم فحسب، بل على نتائج قرائحهم وبنات أفكارهم، وتوهمت أن في قدرتها أن تملك ما لا تستطيع أية قوة طاغية أن تحتكره، وهو الحقيقة العلمية فيما يتعلق بالتجربة المحسوسة أو النظر العقلي السليم. وبذلك أقحمت نفسها في متاهات كانت غنية كل الغنى عن عبورها وأثارت على نفسها حربا ضروساً لا هوادة فيها ولا تمييز.
وأول عمل مارسته الكنيسة في هذا المجال هو احتكارها للعلم وهيمنتها على الفكر البشري بأجمعه.
كتبه: د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
مِن كتاب "العلمانية: نشأتها وتطورها وأثرها على الحياة الإسلامية المعاصرة" - رسالة ماجيستير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق