لو قُدِّرَ لبعضنا أن يُطِل من نافذة تُشرِف على عالم البشر في كل الأزمنة والأمكنة، فإنه سيرى أخلاطاً مُتباينة، واتجاهات مختلفة، وأنماطاً مُتفاوتة، وسيرى الناس يسيرون في دروب كثيرة مُتعرجة حيناً، ومتشابكة حيناً آخر، وسيرى كأن البشرية قد غَشِيَها في عصورها المُتطاولة ظلام مُتكاثف فهي تضرب في دروب الحياة في ليلٍ بهيم، تسير وتسير ويُضنيها المسير، ثم لا تصل إلى الشاطيء الآمِن، ونراها تُحدد أهدافاً وتَقصد غايات، وعندما تُشارِف الهدف المنشود ينكشف عن سراب خادع. إلا أن الناظِر من تلك النافذة سيرى في وسط تلك الطُرُق المُتعرِّجة المُتشابِكة طريقاً واحِداً مُستقيماً، لا ينحرِف يميناً ولا شِمالاً، طريقاً واحِداً تَهُبُّ عليه الأعاصير وكُلَّما قاربت معالمهُ على الاندثار ورسومه على البلى، شاهدنا أقواماً يقومون بِكشف الرمال عنه من جديد، ويُوضِّحون معالمه ويجددون رسومه، ونُطِل من تلك النافذة فنرى السائرين في هذا الدرب الواحد القويم يكثُرون أو يقِلُّون، ولكن الطريق لا يخلو من السائرين، ونرى هذا الدرب مُنيراً في وَسَطِ الظلام الذي يلفُّ الكَوْن، وأصحابه يُشرق النور من قلوبهم ووجوههم، ويحملون مشاعل النور في أيديهم، ويدعون غيرهم إلى الطريق الموصِلُ إلى الأمن والأمان، ويدعونهم إلى النور الذي يُضيء ظُلُمات الحياة كما يُضيء القُلوب والنُفوس.
ليس هذا الذي أقوله خيال شاعر، ولا أوهام حالِم مُنعَزِل عن الحياة، يجري به الفِكر في دُنيا البشر ذات اليمين وذات الشِمال بِلا ضابط، حقاً أننا لم نؤت تلك النافذة التي نُطِلُّ منها على عالم البشر في الحاضر والماضي، ولكننا أوتينا كِتاباً من العليم الخبير الذي خَلَق الكَوْن وأنشأ الإنسان، وعندما يُحدِّثنا العليم الخبير فإنه العِلم الصادق الذي لا شك فيه، فهو سُبحانه الأول الذي لا شيء قبله، وهو خالق الزمان والمكان، والعالِم بكل ما كان.
فالقاريء لهذا الكتاب بقلب مفتوح وعقل مُتَدَبِّر، يُطِلُّ على عالم البشر، ويرى الضلال الذي عاشه الناس في مختلف العصور، والظُلمة التي كانت تتغشاهم، فقد ضَلُّوا عن إلههم الحَق، وعبدوا من دونه الجماد والنبات والحيوان والإنسان، ويرى الطُرُق المُتباينة التي تُوصِلُ جميعها إلى الهاوية والبشر فيها يسعون، وما تلك الفلسفات والعقائد والتصورات والمذاهب القديمة في القديم والحديث التي تُخالِف ما أنزل الله إلا طُرُق غواية، قد تختلف فيما بينها إلا أنها تشترك جميعاً في أنها ضلال وبُعد عن الحق والحقيقة.
وفي وسط هذا الضلال يُوَضِّحُ لنا القُرآن ذلك الطريق الطويل المستقيم الذي استمر على مر الزمان، ذلك الدرب الذي سار فيه أبو البشر آدم، وتعاقب على السَّيْر فيه الصالحون مِن بني آدم: من النبيين، والمُرسلين، والصِّديقين، والصالحين، والشُهداء. والقُرآن يحكي لنا مسيرتهم في هذا الدرب لا يحيدون عنه يميناً ولا شِمالاً: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام – الآية 153]، وهم يسألون الله دائماً التوفيق إلى هذا الصراط والثبات عليه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة – الآيات 6 و7]، وهُم في هذا الدرب يستنيرون بنور الله المُتَمثِّل في وحيه إلى رُسُلِه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [سورة المائدة – الآية 15]، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [سورة الشورى – الآية 52]، وهُم يدعون غيرهم إلى الصراط المُستقيم والنور الهادي {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [سورة النحل – الآية 125]، ويهدي الله من يشاء من عباده ويبقى في الظلام الأشقياء.
كتبه: أ.د. عُمَر سُلَيمان الأَشْقَر - كلية الشريعة، الجامعة الأردنية
من كتاب "مَعَالِم الشَّخْصِيَة الإسْلامِيَة" – دار النفائس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق