الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده،
وبعد،
هل تتحالف العَلمانية مع الصوفية؟
قد يثير هذا السؤال الدهشة لدى البعض، فإذا كانت العَلمانية تدعو إلى التخلي عن القِيَم الدينية وعزلها عن واقع الحياة، فما الذي يمكن أنْ يجمعها بفِكرٍ ذو مرجعية دينية كالفِكر الصوفي؟ خاصةً وأنَّ هذا الفكر قوامه البِدع والخرافات، وأنَّ مِن أسباب نشأة العَلمانية ما تعرضت له النصرانية مِن تحريفات وخرافات، فكما تقول الموسوعة البريطانية عن العَلمانية: هي ((حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية))، مما يُناقِض الشعارات التي يدَّعي العَلمانيون تبنيها.
والإجابة: إذا كان هناك عدوٌ مشترك فلا مانع، والواقع المشاهَد يدل على ذلك. وهذا العدو المشترك في نظرهم هو الإسلام السُنِّي الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، والذي يسوغ تسميته بمنهج أهل السنة والجماعة، أو بمنهج أهل الحديث، أو بالمنهج السلفي، ويحلو لأتباع الطرق الصوفية والشيعة وبعض المستشرقين تسميته بالوهابية.
ولكن ما هي أسباب ذلك العداء؟
عداء العَلمانية
تدعو العَلمانية إلى تنحية الدين عن الحكم والتشريع، والتربية والثقافة، والاجتماع والأخلاق، فهي بكل بساطة "تنحية الدين عن الحياة". فهي ((تجاهل أو رفض أو استبعاد الدين والأبعاد الدينية)) [الموقع الإلكتروني لقاموس ميريام-ويبستر]. ويقول معجم وبستر الدولي الثالث الجديد في مادة “Secularism”: هي ((اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أنَّ الدين أو الاعتبارات الدينية يجب أنْ لا تتدخل في الحكومة، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعاداً مقصوداً، فهي تعني مثلاً "السياسة اللادينية البحتة في الحكومة")) [نقلاً عن العَلمانية، نشأتها وتطورها وأثرها في الحياة الإسلامية المعاصرة – د. سفر الحوالي].
وأهل السُّنَّة والجماعة يعتقدون بأنَّ الدين الإسلامي المُنَزَّل مِن عند الله هو دينٌ شامل كامل، ومنهج حياة وافٍ، لا يجوز بحال تنحيته عن واقع المسلمين، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [سورة الأنعام – الآيات 163، 164]
وهذا المفهوم للدين لا يتعارض فقط مع العَلمانية كحركة ومنهج، بل يناقضها ويهدمها تماماً.
عداء الصوفية
إذا كان التصوف ((حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعاتٍ فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة كرد فِعل مضاد للانغماس في الترف الحضاري)) [وقفات مع متصوفة اليوم – خالد عقدة]، فإنه قد اختلط بهذه الحركة الدجل والشعوذة، والقبورية والغلو في الصالحين، والمعتقدات الباطنية، والتأثر بالفلسفات اليونانية وسلوكيات رهبان أهل الكتاب، حتى وصل الأمر إلى الكفر البواح بظهور أفكار الحلول والاتحاد ووحدة الوجود.
وقد تصدى أهل العلم -ولا يزالون- لانحرافات الصوفية بالنصح والتوجيه ودرأ الشبهات، دفاعاً عن السُّنَّة وقمعاً للبدعة، ونُصرةً لدين الله، مما أثار عداء أصحاب البِدَع والأهواء مِن الطُّرقيين والقُبوريين ضد كل مَن يصدع بالحق ويرفع لواء السُّنَّة.
العدو المشترك ومظاهر التعاون لمواجهته
تقول الدكتورة هدية مير أحمدي، المدير التنفيذي للمجلس الإسلامي الأعلى الأمريكي: ((إنَّ الأحداث الخطيرة التي وقعت في القرن العشرين -انهيار الإمبراطورية العثمانية، والحملات الاستعمارية لبعض القوى الغربية، والتراجع العام للحضارة الإسلامية- قد أدت إلى موجة جديدة مِن الفكر في العالم الإسلامي تسعى إلى توحيد المسلمين في قوة سياسية موجهة ضد أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وهذه الأيديولوجية يُشار إليها بالوهابية -ويطلق عليها اليوم السلفية- ووُصِفت للمسلمين بأنها محاولة لتنقية ممارسات المسلمين حول العالم المتأثرة بالغرب والصوفية وغيرها)) [فَهْم الصوفية واستشراف أثرها في السياسة الأمريكية، 2004، مركز نيكسون - ترجمة د. مازن مطبقاني].
فالوهابية أو السلفية مِن هذا المنظور تُمَثل أكثر مِن إشكالية بالنسبة للحضارة الغربية. الإشكالية الأولى أنها تسعى لتوحيد المسلمين. والثانية أنَّ توحيد المسلمين قد يكون عبر تكوين قوة سياسية، مما قد ينتج عنه قيام حُكم إسلامي وبالتالي دولة إسلامية. والإشكالية الثالثة أنَّ ذلك الاتحاد وتلك القوة السياسية، أو الدولة الإسلامية، سينتج عنه مواجهة مع الغرب وحضارته، ممثلاً في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية. الإشكالية الرابعة أنَّ هذا الفِكر يدعو للعودة بالإسلام إلى ما كان عليه في العهد النبوي، وبالتالي تنقية ما علق به مِن تغريب وخرافة. ومِن ثَم فإنَّ هذا الفِكر يمثل تهديداً للفكر العَلماني الذي يعتنقه الغرب، و للفكر الصوفي بانحرافاته.
ثُم تتبع مير أحمدي، فتقول: ((نظراً للطبيعة العَلمانية للنظام السياسي الأمريكي فمِن الصعب تخَيُّل أنْ نرى صُنَّاع السياسة الأمريكية يؤيدون قِيَم الصوفية بصراحة.. إنَّ برامج مساعدات الولايات المتحدة يمكن أنْ يتم بطريقة التفافية مع الأخذ في الاعتبار ثقافة الدول المختلفة وتاريخها))، ثم أوصت بثلاث طرق محددة يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أنْ تسلكها للمساعدة، كان إحداها: ((القيام بالمحافظة و/ أو إعادة بناء أضرحة الأولياء والمراكز التعليمية المرتبطة بها)) [فَهْم الصوفية واستشراف أثرها في السياسة الأمريكية، 2004، مركز نيكسون - ترجمة د. مازن مطبقاني].
ويقول آلان جودلاس، مِن قسم دراسات الأديان بجامعة جورجيا: ((إنَّ الولايات المتحدة ستُحسن صنعاً في محاولة كل دولة لإحياء هويتها الصوفية المحلية وإدماجها مع الهوية القومية مِن خلال تشجيع نشر كتابات الصوفيين المحليين وترجمة النصوص الكلاسيكية (مِن قِبَل صوفيين محليين) إلى اللغات المحلية المعاصرة وإلى اللغة الإنجليزية، وتشجيع دمج القيم الصوفية مع قيم المجتمع المدني في المعاهد التعليمية)) [فَهْم الصوفية واستشراف أثرها في السياسة الأمريكية، 2004، مركز نيكسون - ترجمة د. مازن مطبقاني].
ولنفهم سر اختيار الغرب العَلماني للنموذج الصوفي والسعي للترويج له في العالم الإسلامي، فلنرى ماذا يقول د.محمد هـ. فاغفوري مِن قسم الدين بجامعة جورج واشنطن: ((إنَّ الصوفية قادرة على لعب دور مزدوج في العالم الإسلامي المعاصر؛ فهي تستطيع أنْ تكون جزءاً مِن بناءً مِن العملية السياسية حيث إنها قادرة على أسلمة الديموقراطية مِن جهة، ومِن جهة أخرى هي قادرة على دمقرطة الإسلام)) [فَهْم الصوفية واستشراف أثرها في السياسة الأمريكية، 2004، مركز نيكسون - ترجمة د. مازن مطبقاني].
ولهذا أوصت شيريل بينارد بـ((تشجيع التأثير الصوفي في المناهج الدراسية والتقاليد والحياة الثقافية بالبلاد ذات التراث الصوفي)) و((تشجيع شعبية وقَبول الصوفية)) [الإسلام المدني الديموقراطي: الموارد، الاستراتيجيات، الشركاء – إعداد شيريل بينارد، مؤسسة راند].
وقد سعت الإدارة الأمريكية للتواصل مع رموز الصوفية في كثير مِن الدول الإسلامية تنفيذاً للتوصيات المذكورة أعلاه. فقد نقل مقال بعنوان "اجتماع شيوخ الصوفية مع ممثل للإدارة الأمريكية بحضور أمن الدولة في مقر الطريقة العزمية" عن أحد رموز الصوفية الآتي: ((وقال الشيخ محمد عبد المجيد الشرنوبي إنَّ ممثل الإدارة الأمريكية طالب باستمرار اللقاءات والتنسيق بين الجانبين، وأكد أنَّ نموذج الإسلام الصوفي يمثل الإسلام المقبول والمُرحب به في أمريكا لكونه إسلاماً وسطياً ومعتدلاً)) [الموقع الإلكتروني لجريدة الدستور – الثلاثاء 03/08/2010].
وقد سعت الحكومة المصرية في عهد الرئيس السابق حسني مبارك للقضاء على أي صوت يهمس بتحكيم الشريعة وشمولية الإسلام، مستخدمةً في ذلك القمع الأمني والإرهاب الفكري، والاهتمام برعاية التيارات الليرالية والعَلمانية، والترويج للكُتَّاب والأدباء الذين يتبنون الفكر الحداثي والطعن في ثوابت الإسلام. ولم تغفل الحكومة المصرية التعاون مع رموز الصوفية لمواجهة الصحوة الإسلامية في مصر، واختيار غلاة الصوفية المعروف عداءها الشديد للسُنَّة لتولي المناصب الدينية الرسمية.
فقد جاء في مقال بعنوان "مؤتمر دولي سنوي للصوفية برعاية الأهرام لمواجهة المد السلفي": ((ويأتي هذا التحرك مِن جانب الصوفية والأشراف بالتعاون مع مؤسسة الأهرام في محاولة لإعادة إحياء الدور الصوفي ضمن خطة يتبناها عدد مِن مؤسسات الدولة، علي رأسها وزارة الأوقاف للتصدي لفكر الإخوان ومحاولة تحجيم انتشار الجماعة بين فئات الشعب ومواجهة الفكر المتشدد والمد السلفي)) [الموقع الإلكتروني لجريدة الدستور – الإثنين 02/08/2010].
وبعد سقوط نظام مبارك، ظهر جلياً تكاتف العَلمانيين والليبراليين مع الصوفية أثناء قضية هدم الأضرحة والتي نسبها الإعلام للتيار السلفي، وجعلها مادة خصبة للفضائيات والصحف، واتخذها ذريعة للطعن في المنهج السلفي، حتى ثبتت براءة السلفيين مِن هدم الأضرحة على يد تقارير النيابة العامة، وأثبتت التحقيقات أنَّ بعض تلك الأضرحة قد تم هدمها في عهد وزير الأوقاف السابق زقزوق.
وقد أثارت المليونية التي قام بتنظيمها التيارات الإسلامية في مصر، والتي رفعت شعارات تطبيق الشريعة والهوية الإسلامية، فزع التيارات العَلمانية والليبرالية والتي ظنت أنها ملكت مفاتيح اتخاذ القرار بالساحة المصرية. ولهذا فقد ((قرر مشايخ الطرق الصوفية و10 أحزاب وقوى سياسية قبطية وليبرالية وعلمانية تنظيم مظاهرة مليونية بميدان التحرير يوم الجمعة المقبل))، بعد أنْ سارَع بعض رموز العَلمانية والتيارات السياسية –على رأسهم د. محمد البرادعي المشرح للرئاسة- لزيارة مقر الطريقة العزمية بحي السيدة زينب للترتيب لهذه المليونية للرد على مليونية التيارات الإسلامية، كما ورد بمقال بعنوان " مليونية صوفية بالتحرير الجمعة المقبل لمواجهة السلفيين وإنشاد ديني حتى الفجر"، وهدف هذا الحشد كما قال د. عبد الجليل مصطفى ممثل الجمعية الوطنية للتغيير: ((تشكيل تكتلات سياسية استعدادا للانتخابات المقبلة)) [بوابة الأهرام الإلكترونية – 05/08/2011].
هل ينجح التحالف العَلماني-الصوفي؟
يجب الانتباه إلى أنَّ ((مراهنة الغرب على إنعاش الفِرَق البدعية وإنهاضها في مواجهة السُّنَّة وأهلها أمرٌ لا يُمكِن الاستهانة بخطره أو التقليل مِن شأنه)) [ولتستبين سبيلُ المجرمين – د. محمد يسري].
ولقد اجتمع الفريقان للكيد بشرع الله وبمَن يرفع رايته ولواءه، ولكن جرت سُنة الله في خلقه أنْ يبطل كيد أعداء دينه وإنْ طال الأمد، قال الله تعالى: ﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾ [سورة فاطر – الآية 43].
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [سورة المائدة – الآية 56]، ((وهذه بشارة عظيمة لمَن قام بأمر الله وصار مِن حزبه وجنده أنَّ له الغلبة، وإنْ أديل عليه في بعض الأحيان لحكمة يريدها الله، فآخر أمره الغَلَبة والانتصار، ومَن أصدق مِن الله قيلاً)) [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان – عبد الرحمن السعدي]، و((حزب الله هم المؤمنون القائمون بنصر شريعة الله)) [زبدة التفسير – د. محمد سليمان الأشقر].
وهذا يتطلب مِن أهل العلم وطلبته والغيورين على دين الله أنْ يجتهدوا في تبصرة الأُمَّة بمكائد أعداء الدين، وبأهمية قضية تحكيم الشريعة كإحدى قضايا التوحيد، وبخطورة الانحراف عن شرع الله وسُنَّة نبيه عليه الصلاة والسلام، وبالأخطاء التي وقع فيها أتباع الطرق الصوفية مِن بِدَع وخرافات.
وأخيراً، تذكِرة للأُمَّة: قال الله تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[سورة المجادلة – الآية 22] ((فلا يكون العبد مؤمناً بالله واليوم الآخر حقيقةً إلا كان عاملاً على مقتضى إيمانه ولوازمه مِن محبة مَن قام بالإيمان وموالاته وبُغض مَن لم يقم به ومعاداته ولو كان أقرب الناس إليه)) [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان – عبد الرحمن السعدي].
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
والحمد لله رب العالمين.
كتبه: أبو إسماعيل حاتم الحاجري، عفا الله عنه
7 رمضان 1432 هـ / 7 أغسطس 2011.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق