خَرَّج مُسلِم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من صامَ رمضانَ، ثم أتبعَهُ سِتَّاً مِن شوالِ، كانَ كصيامِ الدهر". أخرجه مسلم (3/169) (1164)، وأحمد (5/417-419)، وأبو داود (2433)، والترمذي (759)، وابن ماجة (1716).
وقد اختُلِفَ في هذا الحديث، ثم في العمل به، فمنهم من صححه، ومنهم من قال هو موقوف؛ قاله ابن عُيَيْنة وغيره، وإليه يميل الإمام أحمد، ومنهم من تكلم في إسناده.
وأما العمل به، فاستحبَّ صيامَ سِتة أيام من شوال أكثرُ العلماء. رُوِيَ ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وطاوس، والشعبيِّ، وميمون بن مهران، وهو قولُ ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق؛ وأنكر ذلك آخرون.
رُوِي عن الحسن أنه كان إذا ذُكِرَ عنده صيام هذه السِتة، قال: "لقد رضي الله بهذا الشهر للسنة كلها". ولعله إنما أنكر ذلك على من اعتقدَ وجوبَ صيامها وأنه لا يكتفي بصيام رمضان عنها في الوجوب. وظاهر كلامِه يدلُّ على هذا.
وكَرِهها الثوريُّ، وأبو حنيفة، وأبو يوسُفَ، وعَلَّلَ أصحابُهما ذلك بمشابهة أهل الكِتاب، يعنون في الزيادة في صيامهم المفروض عليهم ما ليس منه. وأكثر المُتأخرين من مشايخهم قالوا: لا بأس به، وعلَّلوا بأنَّ الفصل قد حصلَ بفِطر يومِ العيد، حكى ذلك صاحبُ "الكافي" منهم.
وكان ابن مهدي يكرهُها ولا ينهَى عنها. وكرِهَها أيضاً مالِكٌ، وذكر في "الموطأ" أنه لم ير أحداً من أهل العِلم والفقه يصومها، قال: "ولم يبلغني ذلك عن أحدٍ من السَّلف، وأن أهل العِلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته وأن يُلحِق برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة لو رأوا أحداً من أهل العِلم يفعلُ ذلك". وقد قيل: إنَّه كان يصومها في نفسه، وإنما كرِهَها على وجهٍ يُخشى منه أن يُعتَقَدَ فريضتها؛ لئلا يُزاد في رمضان ما ليس منه.
وأمَّا الذين استحبُّوا صيامها، فاختلفوا في صِفة صيامها، على ثلاثة أقوال:
أحدُها: أنه يُستحبُّ صيامُها مِن أوَّل الشهر مُتتابِعَة، وهو قول الشافعي وابن المبارك، وقد رُوِيَ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "مَن صامَ سِتة أيام بَعد الفِطر مُتتابِعَة، فكأنما صام السَّنَة". أخرجه الطبراني في الأوسط (7607) وذكره المنذري في "الرغيب والترهيب"، وقال: "في إسناده نظر". وراجِع "ضعيف الترغيب والترهيب" للألباني (607) و"مجمع الزوائد" (3/183). خرجه الطبراني وغيرُه مِن طُرُقٍ ضعيفة. ورُوِيَ موقوفاً، ورُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنه مِن قولِه بمعناه، بإسناد ضعيف أيضاً.
والثاني: أنَّه لا فرقَ بين أن يُتابِعَها أو يُفرِّقَها من الشهر كُلِّه، وهُما سواءٌ، وهو قولُ وكيعٍ وأحمد.
والثالث: أنه لا يُصامُ عُقيب يوم الفِطر؛ فإنَّها أيام أكلٍ وشُربٍٍ، ولكن يُصام ثلاثة أيامٍ قبل أيامِ البيض أو بعدها. وهذا قولُ مَعْمَر وعبد الرَّزَّاق. ويُروى عن عطاءٍٍ، حتى رُوِيَ عنه أنَّه كَرِهَ لِمن عليه صيامٌ من قضاءِ رمضانَ أن يصومَه، ثم يَصِلَهُ بصيام تَطوُّعٍ. وأمر بالفصل بينهما؛ وهو قولٌ شاذ.
وأكثَرُ العلماء على أنه لا يُكْرَهُ صيامُ ثاني يومِ الفِطر، وقد دَلَّ عليه حديث عِمران بن حصين رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لرجل: "إذا أفطرتَ فَصُمْ".
وقد سَرَد طائفةٌ من الصَّحابة والتابعين الصَّوْمَ إلا يوم الفِطر والأضحى. وقد رُوِيَ عن أُم سلمَةَ أنها كانت تقول لأهلها: "مَن كان عليه قضاء من رمضان فَلْيَصُمه الغَدَ من يَوْمِ الفِطر، فمَنْ صامَ الغدَ من يوم الفِطر فكأنما صام رمضان". وفي إسناده ضعف. وعن الشعبي، قال: "لأن أصومَ يوماً بعد رمضان أحبُّ إلي من أن أصومَ الدَّهْرَ كُلَّه". ويُروى بإسنادٍ ضعيف عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: "من صامَ بعد الفِطر يوماً فكأنما صام السَّنة". وبإسناد ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: "الصائم بَعْدَ رمضان كالكارِّ بعد الفارِّ". أخرجه البيهقي في "شُعب الإيمان" (3737).
من كتاب "لَطَائِف المعَارِف فِيمَا لِمَواسِمِ العامِ مِنَ الوَظَائِف" للعلامة الحافِظ ابن رجب الحنبلي، رحمه الله – حققه وعلق عليه فضيلة الشيخ طارق بن عوض الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق