16‏/08‏/2009

نبذ البطالة والمُبطلين ومصاحبة ذوي الهِمم

ليس هناك أشأم على السائر إلى الله من البطالة وصحبة البطالين، فالصاحب ساحب والقرين بالمقارَن يقتدي.

"والبرهان الذي يعطيه السالكون علامة لصدقهم أنهم يأبون إلا الهجرة والانضمام إلى القافلة، ويذَرون كل رفيق يُثَبِّطهم ويُزَيِن لهم إيثار السلامة. ينتفضون ويهجرون كل قاعد، ويهاجرون مع المهاجرين إلى الله، ويطرحون أغلال الشهوات وحب المال عن قلوبهم." من كتاب الرقائق للراشد ص140.

ولما أراد قاتل المائة أن يتوب حقاً قيل له: "اترك أرضك فإنها أرض سوء، واذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم". متفقٌ عليه.

فلابد لمن أراد تحصيل المغفرة من شهر رمضان أن يترك المخْلِدين إلى الأرض ويزامل ذوي الهمم العالية كما قال الجُنَيد: "سيروا مع الهمم العالية". وقد أمر الله خير الخلق صلى الله عليه وسلم بصحبة المُجِدِّين في السير إلى الله وترك الغافلين فقال عز من قائل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [سورة الكهف – الآية 28]، وقال عز وجل: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [سورة لقمان – الآية 15]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة – الآية 119].

فلو حَسِب الإنسان أن قيام ساعة من الليل إنجاز باهر فهو مغبون لن يعدو قدره، بل سيظل راضياً عن نفسه مانَّاً على ربه بتلك الدقائق التي أجهد نفسه فيها، ولكنه لو رأى الأوتاد من حوله تقف الساعات الطوال في تهجد وتبتل وبكاء – وهم مُتَقَالُّونها – فأقل أحواله أن يظل حسيراً كسيراً على تقصيره مُردداً:

أنا العبد المُخلَّفُ عن أُناسٍ

حوَوْا من كل معروفٍ نصيباً

ونبذ البطالة هجيري الناسك في كل زمان، وقد قيل الراحة للرجال غفلة.

وقال شُعبة بن الحجاج البصري أمير المؤمنين في الحديث: "لا تقعدوا فُراغاً فإن الموت يطلبكم".

وقال الشافعي: "طلب الراحة في الدنيا لا يصلح لأهل المروءات، فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان".

وقيل لأحد الزهاد: "كيف السبيل ليكون المرء من صفوة الله؟ فقال: إذا خلع الراحة وأعطى المجهود في الطاعة".

وقيل للإمام أحمد: "متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم يضعها في الجنة".

أما البحث عن أصحاب الهمم والمروءات وأصحاب السر مع الله فهي بُغية كل مخلص في سيره إلى الله، قال زين العابدين: "إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه".

وقال الحسن البصري: "إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا وإخواننا يذكروننا بالآخرة".

قال الشاعر:

لَعُمرك ما مالُ الفتى بذخيرةٍ

ولكن إخوان الثقات الذخائرُ

وكان من وصايا السلف انتقاء الصحبة، قال الحسن البصري: "إن لك من خليلك نصيباً، وإن لك نصيباً من ذِكر من أحببت، فاتقوا الإخوان والأصحاب والمجالس".

فاجتهد أيها الأريب باحثاً عن أعوان المسير أصحاب الهمم العالية، ابحث عنهم في المساجد بالضرورة، اسأل عنهم في مجالس التقاة، لا تستبعد المفاوز لتصل إليهم، ولو اقتدى الأمر أن تعلن في الصحف السيارة: مطلوب مُعينٌ على الخير في شهر رمضان. يا له من إعلان.

ومع هذه الصحبة تتحاثون على تدارك الثواني والدقائق، تحاسبون أنفسكم على الزفرات والأوقات الغاليات، لو فرط أحدكم في صلاة الجماعة وجد من يستحثه على عقاب نفسه، كما كان يفعل ابن عمر.

ترى البطالين يصلون التراويح سُوَيعة ثم يسهرون ويسمرون ويسمدون وتضيع عليهم صلاة الفجر {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [سورة الكهف – الآية 104].

لا أيها الرشيد، تعال أخبرك بحال من اجتمعوا على السير إلى الله: أوقاتهم بالذِكر وقراءة القرآن معمورة، مساجدهم تهتز بضجيج البكاء من خشية الله، تراهم ذابلين من خوف الآخرة، وعند العبادة تراهم رواسي شامخات كأنهم ما خُلقوا إلا للطاعة، ليس في قاموسهم: فاتتني صلاة الجماعة – دع عنك أصل الصلاة -، تراهم في قيامهم وقعودهم مطأطئين على حياء من الله يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.

ليلهم، وما أدراك ما ليلهم؟ نحيب الثكالى يتوارى عند نشيجهم {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [سورة الأنفال – الآية 6]، صلاتهم في ظلام تُجلل بأنوار الكرامة، فهم في حُللها يتبخترون، وببهاء مناجاتهم لربهم يتيهون، محا استغفار الأسحار سخائم قلوبهم، فهم في نعيم الأنس يتقلبون، وبلذيذ الخطاب يستمتعون. وهذا الحفظي يخبرنا:

والجنيد يقول طاحت

كل عِلم وإشارة

ورسومات تلاشت

وانمحت تلك العبارة

وركيعات توالت

سحراً فيها البشارة

ورأينا في المآل

ذلك الكنز الدفينا

فاز من قام الليالي

بصلاة الخاشعينا

واعلم أيها النبيه أن من تمام سعيك لتحصيل المغفرة من شهر رمضان أن تبحث لك عن شيخ مُربٍ أريب، قد يكون ظاهراً أو خفياً، قد يكون عالماً أو طالب علم، ولكنك من لحظه ولفظه تعلم أنه صاحب سر مع الله، ومثل هؤلاء يشتهر أمرهم غالباً بين الناس، وإن بالغوا في التخفي فلن تعدم من يدلك عليهم إذا أكثرت التسآل عنهم.

وشرط انتفاعك بهم أن يكونوا من أهل السُنَّة والنسك السلفي، فهؤلاء هم أمنة الأمة وهداتها.

ومثل هؤلاء تنتفع بهديهم ودلهم وسمتهم، وبفعالهم قبل أقوالهم، تراهم في الصلاة نموذجاً للرهبوت والتبتل والتنسك، تكبيرتهم في الصلاة وإن خفتت بها أصواتهم فكأنها صرخة في مجرات الكون بحقيقة أكبرية الله.

الهم إنا نسألك صحبة الصالحين، وألحقنا بهم في جنات النعيم.

كتبه: فضيلة الشيخ رضا بن أحمد صمدي

من كتاب: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق